لتكهن بمستقبل الصحافة الثقافية العربية لا يتأتى إلا من خلال رصد راهنها الذي يبدو غائما ضمن حالة عامة لراهن المشهد الثقافي العربي، الذي أصبحت تسوده الشللية والصراعات وأزمات لا تتوقف، وصلت إلى حد تعطيل مؤسسات صحافية لعبت دورا كبيرا ومهما في المشهد الثقافي العربي. “العرب” استطلعت آراء البعض من الكتاب والفاعلين في قطاع الصحافة الثقافية، في محاولة لرصد مشهد مستقبل الصحافة الثقافية في ظل ما يجري من تعطيل وإيقاف للدوريات الثقافية العربية.
شهدت الساحة الثقافية العربية تعطيل صدور العديد من الملاحق الثقافية مؤخرا مثل ملحق النهار، ليمتد الإغلاق إلى مؤسسات ومنابر ثقافية عريقة مثل مؤسسة الصدى الصحافية والمشهد الصحافي ودوريات مثل مجلة المجلة، ومجلة الرواية، وغيرها من الإصدارات الثقافية التابعة للهيئة العامة للكتاب في مصر.
مشهد كارثي
يبدأ القاص شريف صالح حديثه بصفته يعمل في “الصحافة الثقافية” منذ سنوات، إذ يرى أن مستقبلها مظلم. يقول “إذا كانت الصحف والإصدارات الورقية مهددة بالانقراض في غضون السنوات القليلة القادمة، فالصحافة الثقافية تعاني من الانقراض الآن. والدليل أن بعض الصحف لا تخصص صفحة للثقافة أساسا، وإن فعلت فهي صفحة ليست منتظمة في النشر”.
ويشير صالح إلى أنه من الطبيعي أن يصبح أي إصدار ورقي سواء كان كتابا أو مجلة أو صحيفة في خطر وسط الشعوب العربية، حيث ترتفع نسب الأمية والفقر إضافة إلى ما تيسر من أجهزة إلكترونية وشبكات تواصل اجتماعية لا تتطلب بذل أي جهد معرفي.
ويتابع “من منا كان يتوقع أن تُغلق مجلة مثل دبي الثقافية، التي كانت تقيم مسابقة إبداعية مهمة للشباب، وبالصدفة حضرت توزيع جوائزها قبل قرار إغلاقها المباغت بأقل من أسبوعين، وكان القائمون عليها يتحدثون عن تطويرها. وبالعودة إلى تراثنا الثقافي خلال قرنين من الزمان، نجد أن معظم المجلات كان مآلها الانقراض، بعضها توقف دون أن يمر عليه عام. ولا توجد استثناءات سوى مجلة الهلال منذ أكثر من مئة عام، وكذلك مجلة العربي الكويتية رغم ما يقال عن مشكلات خاصة بها. وحتى مجلة الدوحة توقفت ثم عادت. لذلك لا أستغرب توقف أيّ مطبوعة ورقية في أيّ لحظة. مع انعدام الدعم الحكومي وعدم توفر الإعلانات. بل وعدم توفر شريحة كافية من القراء المتحمسين لشرائها. يحزنني فعلا توقف أو إلغاء أي منبر ثقافي لكن هذا هو واقعنا”.
من جانبه يلفت الشاعر والكاتب الصحافي أشرف أبواليزيد إلى أن المأزق الأول لصحافة المجلات الثقافية هو تقليدية النشر عبر الوسيط الورقي، وهو أمرٌ بات مكلفا، خاصة وأن تلك المجلات المتخصصة لم تعد تلبي حاجات شرائح واسعة من القراء والكُتّاب على حدّ سواء، مع أحادية رؤى القائمين عليها وتقلص المساهمين في صفحاتها، فكأنما هي نشرة كلاسيكية، في رأيه، وهذا ما أدّى إلى انخفاض التوزيع، وباتت مقصلة عدم الفائدة المنشودة جاهزة للقضاء عليها.
أما المأزق الثاني، بالنسبة إلى أبواليزيد، فهو تشابه الأدوار بين المطبوعات الثقافية مما يعني أن هناك جهدا مبذولا يعيد إنتاج ما ينشر، ولذلك لم تعد الوجبة الثقافية مناسبة لعموم قراء الصحافة الثقافية، وإنما يبدو الشكل والمحتوى مكرورين. لكن المأزق الأهم، كما يقول الشاعر، هو أن الصحافة الثقافية لا تحظى بالصحافي المتكامل في تكوينه وفكره، بل تحصل على صحافيين تقليديين، تقتصر عملية النشر عندهم على تحويل مادة مكتوبة إلى صفحات في المجلة المطبوعة، دون ربطها بالوسائط الأخرى، من مرئية ومسموعة، فالمواقع الإلكترونية للمجلات، وصفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي المدونة والمصورة أصبحت جميعها جزءا ركينا لضخ الحياة في شرايين هذه المجلات الورقية، ومصدرا آنيا للتفاعل مع قرائها وكتابها، ومحركا ضروريا للمياه الراكدة في التلقي، ومقياسا للتأثير؛ لذلك كله يقر أبواليزيد أن غلق المجلات لا يبدو فعلا كارثيا، وإنما هو نتيجة لكارثية المشهد الصحافي الثقافي.
من جهته يؤكد الكاتب والشاعر فتحي عبدالسميع أنه لا يمكن النظر إلى مستقبل الصحافة الثقافية دون تشاؤم، ولا يمكن فصل حالها عن الحالة المأساوية التي يعيشها العالم العربي، ففي الوقت الذي يتضح فيه أن أغلب مشكلاتنا ثقافية في الجوهر، وأن الرهان على الثقافة أفضل من الرهان على السياسة أو الاقتصاد، نجد هذا الجور الأليم على كل مساحة ثقافية يمكن أن تلعب دورا.
يقول الشاعر “رغم ضيق المساحات الثقافية في الصحف والإعلام عموما وتهميشها، في الوقت الذي ننتظر منها اهتماما أكبر، نسمع عن غياب صفحة ثقافية هنا، أو توقف مجلة هناك، وغلق كل نافذة ثقافية يوازي في تقديري مذبحة من تلك المذابح التي تتوالى في عالمنا العربي، مذبحة تستهدف أهم مقومات الوجود العربي وهو الثقافة، لا ترعبني أنباء المذابح بقدر ما ترعبني أنباء الجور على الثقافة، لأنه يستأصل وجودنا من جذوره، ولا أعرف ما إذا كان الأمر يتم عن جهل بجدوى الثقافة، أم يدخل في مخطط لتصفية الذهن العربي من كل قيمة حقيقية، والعمل على حشوه بالتفاهات أو المتاهات التي لا تمنحنا مستقبلا آمنا”.
عشوائية النشر
يقول الشاعر سمير درويش، رئيس تحرير مجلة الثقافة الجديدة “الواقع أن سوق النشر في مصر، مثلا، يعاني معاناة شديدة، ليس من قلة الإمكانيات فقط، ولكن من انعدام التخطيط والرؤية المستقبلية، فهو عشوائي يرتبط بالمصالح والأشخاص أكثر مما يرتبط بالاستراتيجيات التي تبني المجتمع وتكتشف المواهب وتساعد على نشر الأدب بأشكاله ودرجاته المختلفة، وهذا الكلام -في رأيي المتواضع- لا يرتبط بعشوائية النشر تحت جناح الدولة ووصايتها فقط، ولكن في القطاع الخاص أيضا”.
ويستشهد درويش ببعض ملامح العشوائية التي تشوب مثلا هيئة قصور الثقافة، التي يرى أن مهمتها الرئيسية اكتشاف المواهب في الأماكن البعيدة عن الضوء، ووضعها على الطريق الصحيح، ومساعدتها حتى ترى النور، ولكنها حادت عن هذا الهدف السامي، إذ تعددت إصداراتها التي بلغت حوالي ثلاثين سلسلة ودورية، لكن بعضها لا يعرف الناس اسمها أصلا، إضافة إلى سيطرة منطق الصداقات على مسارات النشر مثل إصدار “الأعمال الكاملة” لكتاب بلغوا الستين، ومعظمهم أصحاب تجارب غير مؤثرة في الواقع الأدبي.
إضافة إلى ذلك تصدر هيئة الكتاب عددا كبيرا من المجلات الشهرية والفصلية، لا يسمع عنها الأدباء أنفسهم، ولا الجمهور العام. ويفسر ضيفنا كثرة الإصدارات بارتباطها بالرغبة في إرضاء بعض الشخصيات بتعيينهم في مناصب ثقافية، دون النظر إلى الهدف إن كان تحقق أم لا، والنتيجة كما يقول، إننا نحرث في البحر.
يتابع درويش “سلاسل الكتب التي تصدر عن وزارة الثقافة كثيرة، وتصدر من عدة هيئات دون تنسيق، ولا توجد لأي منها بطاقة توصيف يلتزم بها رئيس تحريرها مهما كان اسمه، والنتيجة أن كل رئيس تحرير جديد يتعامل مع السلسلة وكأنها ولدت اليوم، وكذلك الذي يأتي بعده، وهكذا”.
كما يتطرق محدثنا إلى مسألة دور النشر الخاصة المشهورة، والتي يكشف أنها تنشر للكتاب الرائجين، الذين يضمنون نسب مبيعات معقولة، ولا تلتفت لدورها الأصلي في صناعة الكاتب والترويج له كما يحدث في الغرب. أما عن الدور الصغيرة فيقول “إنها نبتت شيطانيّا في سنوات قليلة، وتحولت إلى دكاكين تأخذ أموال الكتاب وتطبع لهم نسخا قليلة من كتبهم، في سرية تامة وتكتم شديد لا يستطيع الكاتب نفسه اختراقهما”.
إضافة إلى تلك الإشكاليات يذكّر سمير درويش بأن انتشار الكمبيوتر والإنترنت والفيسبوك في السنوات الأخيرة، جعل أهمية المجلات الثقافية والجرائد المطبوعة بشكل عام، تتراجع، فالشعراء والكتاب الآن ينشرون إنتاجهم على صفحاتهم الخاصة، ويحققون نسب قراءة تزيد عن مئة ضعف لما تحققه الطباعة الورقية، ومن نتيجة ذلك أن الأديب يخرج إلى النور وهو في سن مبكرة، والأمثلة على ذلك كثيرة.
لكن ضيفنا يلفت إلى أن هذا الكلام ليس معناه عدم أهمية المجلات الثقافية والدوريات والنشر الورقي عموما، لكنه يسلط الضوء على عشوائية المشهد في مصر، وغياب الرؤية الشاملة.
إغلاق المنابر
يشير الناقد جمال الطيب إلى أن الساحة الثقافية تشهد في بلدنا وبعض البلدان العربية المجاورة ظاهرة نعجز عن تفسيرها، وهي إغلاق بعض المجلات الثقافية التابعة للحكومات، كإغلاق مجلة “عالم الكتاب” القاهرية، و“دبي الثقافية”، وتحول بعض المجلات كـ”جريدة فنون” الكويتية من شهرية إلى فصلية، وزيادة أسعار بعض المجلات بأضعاف سعرها كمجلة “الرافد” الإماراتية، ومجلة “العربي” الكويتية التي زاد سعرها من جنيه وربع للنسخة إلى خمس جنيهات، إضافة إلى عدم انتظام بعض المجلات في الصدور كمجلة “إبداع” القاهرية. وهذا ما يدعو إلى الحيرة، في رأي ضيفنا.
ويعقب الناقد في حديثه عن الشأن المصري قائلا “إن المسؤولين عن هذه المنظومة ليسوا بعيدين عن الوسط الثقافي، فوزير الثقافة المصري حلمي النمنم كاتب معروف وله باع وتاريخ في المجال الثقافي من خلال كتبه العديدة التي تزخر بها المكتبة المصرية، ورئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، هيثم الحاج علي ناقد أدبي أكاديمي، ليكون السؤال الذي يفرض نفسه: لِم هذا التخبط والإغلاق لنوافذ ثقافية لها دورها في نشر الوعي الذي يُعدّ حائط الصدّ الأول للأفكار الرجعية والمقاوم لكل دعوات التأسلم السياسي؟ وهل للبيروقراطية داخل أروقة المصالح الحكومية دور رئيسي في ما يدور داخل الوزارة والهيئة من تخبط وعجز عن اتخاذ قرارات حاسمة وناجزة لدفع الحركة الثقافية إلى الأمام، والتي تعتبر المجلات الثقافية إحدى روافدها، إلى جانب المسرح والسينما والفنون التشكيلية والموسيقى وكافة أشكال الفنون الأخرى؟”.
ومن جانبه يقول المترجم رفعت السيد علي “صدرت خطة جديدة لإعادة هيكلة منشورات وإصدارات هيئة الكتاب من مجلات ودوريات بدت في جوانب منها وكأنها مذبحة نشر، أو كأنها صدى لحركة مماثلة قام بها السادات في السبعينات، وترتب عن تلك الهيكلة الجديدة إلغاء مجلات المسرح، ومجلة المجلة، وعالم الكتب، والثقافة الجديدة، ومجلة الرواية”.