علامَ يتفاوض الحوثيون، إذا تفاوضوا؟ بعد كل ما ارتكبوه في حق، وما تسببوا به إذ لعبوا ويلعبون بالنار الإقليمية، فإنهم لا يزالون يعتقدون بأنهم حققوا إنجازاً ويريدون الحفاظ عليه مهما كانت الظروف، وبما هذا «الإنجاز» الذي يسمّونه «ثورة» تجسّد باعتدائهم على الدولة والاستيلاء على مؤسساتها، وبتواطئهم مع حليف حاقد سبق أن استحوذ على بعض الجيش اليمني ووضَعَه في خدمَتِهم فسهّل لهم نهب الأسلحة والمعدات، وبما أن ذلك الإنجاز تضمّن أيضاً الانقلاب على الحكومة الشرعية واحتجاز الرئيس واختطاف أعضاء حكومته، ثم مطاردتهم بعد تمكّنهم من الفرار، بل إن أوهامهم بلغت حدّ اعتبار الاعتداء على حدود المملكة العربية السعودية تتويجاً لذلك «الإنجاز».. فإن هدفهم من أي تفاوض هو الحفاظ على ما يعتقدونه «مكاسب» أو على الجزء الأكبر منها، وأكثر من ذلك أنهم يريدون اعترافاً دولياً بما سطوا عليه، وفي أسوأ الأحوال يتطلّعون إلى محاصصة غير متكافئة تعطيهم بالتفاوض ما لا يستحقونه في الواقع.
وعَلامَ تفاوض الحكومة الشرعية، حين تفاوض؟ على إعادة الدولة بما تعنيه من جيش وأمن ومؤسسات صادرها علي عبدالله صالح طوال ثلاثة عقود ونيّف حتى ترسّخ في ذهنه أنها مِلكية شخصية وعائلية، حتى إنه تحالف مع أعداء الدولة في سبيل الاحتفاظ بما اعتبره امتيازات له أو لقبيلته، ولم تبادر الحكومة الشرعية إلى العنف بل إلى رعاية حوار بين اليمنيين، وقد برهنت فئات الشعب على اختلافها، باستثناء جماعة الحوثيين والرئيس المخلوع، مقداراً عالياً من حسن النية وحسّ المسؤولية تجاه البلد والمجتمع، وحاولت هذه الحكومة السير بالمرحلة الانتقالية إلى مآلها السلمي المنشود، رغم العقبات التي صادفتها من الثنائي «الحوثي - الصالحي» المتحالف موضوعياً وضمنياً مع الجماعات الإرهابية بحكم التقاء المصالح في تفتيت الدولة وإلغائها، وبالتأكيد لم يكن قراراً سهلاً على الحكومة حين استنجدت أولاً بمجلس الأمن الدولي ثم بدول مجلس التعاون التي رعت المرحلة الانتقالية من خلال المبادرة الخليجية؛ إذ لم يُترَك لها أي خيار آخر.
لا شك أن الحال التي افتعلها الحوثيون وحلفاؤهم في اليمن لم تكن لتؤسس سلاماً ولا استقراراً بل مجرد خطوة لإدخال البلد في الصراع الإقليمي بين دول الخليج وإيران؛ ولذلك اقتضت الحاجة إلى إنشاء «تحالف عربي» ليكون للحرب في اليمن بعدها الواقعي المتعلق بهويّته ومستقبله، فضلاً عن هدفها الأول والأهم وهو عدم العودة باليمن إلى حكم ثارَ عليه الشعب ولم يعد يريده بل حمّله مسؤولية التخلف والفساد اللذين فوّتا كل الفرص لبناء دولة يمكن الاعتماد عليها لصيانة أمن الشعب وأمانه، وكان الحوثيّون وحلفاؤهم في الداخل والخارج يعتقدون أن «التحالف» تورّط في خطّة لا يدرك صعوباتها ومغامرة سيتوانى عن الذهاب فيها أبعد من حدّ معيّن، لكنهم أخطئوا في حساباتهم لأن «التحالف» أبدى عزيمة وتصميماً غير مسبوقين، ولا يزال مستعداً لتقديم تضحيات بالأرواح عدا التكاليف المادية الهائلة التي كان يمكن أن تخصّص للتنمية وإنهاض الاقتصاد لو أن أعداء اليمن الداخليين غلّبوا الحكمة وبعد النظر على شحذ الأحقاد وتعميقها لتبقى طويلاً بين أبناء الشعب أولاً وبين بعض هذا الشعب وجيرانه الذين أثبتوا حرصهم على اليمن ومستقبله.
خلال الجولة الثانية من التفاوض على التفاوض في سويسرا بدا واضحاً أن الحوثي لا يزال يراهن على الوقت، إذ لم يستطع خلال نحو أسبوع أن يوافق على «إجراءات بناء الثقة» التي يتوقع أن يستأنف البحث فيها في الجولة التالية في إثيوبيا، يُفترض في تلك الإجراءات أن تكون متبادلة لإطلاق سراح الأسرى من الجانبين وتسهيل وصول المساعدات الإغاثية إلى المناطق المحتاجة، والواقع أنه أقدم ولا يزال، قبل الحرب وفي أثنائها، على انتهاكات موصوفة لا تقتصر على اعتقالات في مناطق سيطرته أو على ترويع المواطنين ومحاصرة أحياء معينة في المدن والبلدات ومنع وصول الأغذية والأدوية إليها، وإلى الوقت، يراهن الحوثي أيضاً على تغيير في الموقف الدولي ربما يكون في صالحه.
ومنذ اندلاع الحرب دأبت طهران والحوثيون على المطالبة بوقف ما وصفوه بـ»التدخل الخارجي» ليكون ممكناً الشروع بالتفاوض على «حل سياسي» ولا يعني ذلك سوى إعادة الوضع إلى ما كان عليه خلال مارس 2015 عندما كان الحوثيون يرهبون الأطراف المشاركة في حوار برعاية الأمم المتحدة، لكن الوضع تغيّر الآن جذرياً، ليس فقط لأن هناك تدخلا لـ»التحالف العربي»، بل لأن الحكومة الشرعية لم تعد متروكة لقدرٍ يرسمه الحوثيون لها.
ثم إن المحور الرئيسي لأي تفاوض بات القرار الدولي 2216 الذي تضمّن خريطة طريق مؤدّاها اعتبار الحكومة رمزاً للدولة وللشرعية، ومهما حاول الحوثيون و»الصالحيون» التحايل على تطبيق هذا القرار فإن منطلق أي تفاوض وأي حل يكمن في الاعتراف بهذه الحكومة، لكنهم لا يزالون بعيداً جداً عن اعتراف كهذا، بل إنهم ذهبوا إلى سويسرا باستراتيجية تفاوض يشرف عليها مباشرةً «مستشارون» من إيران و»حزب الله» اللبناني خارج القاعة، وقوامها تمييع الأجندة التي حدّدها المبعوث الأممي، فثمة تفاوض موازٍ يخوضه الإيرانيون مع الأميركيين في مكان آخر، ويتوقّعون أن تسفر مساوماته عن تحسين موقف الحوثي المفاوض، لكن تحت غطاء الوقف المؤقت لإطلاق النار والبدء بالتفاوض، كانت هناك مجموعات «صالحية» تحاول اختراق المناطق الحدودية السعودية، وكان لا بد من صدّها بالوسائل اللازمة، بما في ذلك تحريك الجبهات الداخلية خصوصاً في مأرب والجوف وبالتالي الاقتراب من العاصمة صنعاء، وهكذا انهار وقف النار والمفاوضات، فالحوثيون وحلفاؤهم ليسوا جاهزين بعد للبحث في حل سياسي بناء على القرار الدولي حتى لو تطلّب بعض المرونة من الجانب الحكومي.
نقلا عن العرب القطرية