لماذا يصرّ حكام العرب على بيع روايةٍ كاذبةٍ تقول إن جهودهم واتصالاتهم السفلية، وتفاهماتهم السرية، هي التي أجبرت إسرائيل على فك حصارها الشامل عن المسجد الأقصى؟
أزعم أن المسألة ليست محاولةً لركوب أمواج الأقصى، لإثبات وجود، أو تثبيت مكانة، أو خطف دور من أدوار البطولة الزائفة، ذلك أن قضية الأقصى لديهم من الأشياء الهامشية التي لا تمثل شيئاً إذا ما وضعت أمام مسألة توريث العرش، مثلاً، أو التسابق على مصافحة دونالد ترامب، أو التقاط صورة سيلفي مع إيفانكا.
ليس الأقصى معركة كبيرة بالنسبة لهم، فمعاركهم أكبر من ذلك بكثير: من نوعية حرمان قطر من استضافة كأس العالم 2022، أو ممارسة كل أنواع الضغوط على المجتمع الدولي، لإدراج حركات المقاومة العربية على لائحة الإرهاب، أو القتال ضد وسائل إعلام عربية، يعتبرونها معادية.
لماذا إذن تتجدّد لوثة الزعم إن هذا الزعيم أو ذاك، من الدول العربية المتحرّقة شوقاً للدخول في علاقات تطبيع دافئ مع إسرائيل، هو الذي فتح الأقصى؟
القصة باختصار أنهم جميعاً يكرهون الجماهير، ويحاربون منذ العام 2011 على كل الجبهات لقتل فرضية الفعل الجماهيري، القادر على تغيير الواقع السياسي والجغرافي في المنطقة، أو بالأحرى هم لا يتحمّلون أن يقال إن غضباً جماهيرياً حاشداً، في محيط الأقصى، وفي المدن والبلدات الفلسطينية، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي العربية والعالمية، أجبر الكيان الصهيوني على التراجع عن القرارات الهمجية غير المسبوقة، خوفاً من امتداد ألسنة الغضب النبيل، على نحوٍ يهدّد بانتفاضةٍ شعبية، لا فضل لحركات سياسية منظمة فيها، تهدّد عمق الاحتلال، وتعرّي عروشاً عربية تستمرئ الانحناء أمام ما تريده تل أبيب.
لقد أنفقت إسرائيل والسعودية والإمارات عشرات مليارات الدولارات، من أجل إعلان نهاية موت الجماهير، فذلك الذي جرى في مصر، وامتد إلى ليبيا وسورية واليمن، كان الهدف منه قتل إيمان الجماهير بالقدرة على الفعل والتغيير والتحرّر، هذا الإيمان الذي أضاء داخل الذات العربية المسحوقة، مع اندلاع الربيع العربي وسريانه في أوصال الشعوب من تونس إلى القاهرة وصنعاء ودمشق وطرابلس والمنامة.
من هنا، كان احتشاد عرب الانقلابات والثورات المضادة لإخماد هذا اليقين الجديد، بما يحمله من أخطارٍ على أنظمة حكم ما كان لها أن تبقى، لو واصل الحلم بالتغيير وقيم الحداثة والدمقراطية والحرية سريانه في الخارطة العربية، وطوال السنوات الخمس الماضية، تخوض هذه الأنظمة حرباً قذرة، على كل الجبهات، وباستخدام كل الأسلحة المجرّمة قانونياً وأخلاقياً، لتحقيق هدفها النهائي: إنهاء زمن الجماهير، أو كما عبّر عن ذلك آخر الحقوقيين الكبار في مصر، اليساري النبيل أحمد سيف الإسلام، في خريف 2013، بالذهاب إلى أن خطورة مذابح رابعة العدوية، وما سبقها وما تلاها، أن الهدف منها هو إنهاء عصر الجماهير، من خلال تنفيذ ما من شأنه تآكل وتضاؤل وزن الجماهير قوة محرّكة في العمل السياسي، في المستقبل، وهو ما ستدفع ثمنه كل القوى السياسية، وليس فقط الإخوان المسلمون، وهو ما تراه ماثلاً أمامك الآن.
والحاصل أنه ليست الجماهير المصرية وحدها التي دفعت الثمن، بل دفعته الجماهير العربية كلها في سورية واليمن وليبيا، وصعدت أنظمة قتل الثورات على جثة الحلم بالتغيير، فتحوّلت الثورة السورية إلى فريسةٍ ممدّدةٍ على الموائد، تتناوب نهشَها كل القوى الإقليمية والدولية المتربصة بمشروع الربيع العربي، وباتت ثورة اليمن ساحةً مفتوحةً للنزاع الطائفي، وطموحات الوصاية والتمدّد، وفي كل ذلك أقصيت الجماهير، لتسود التحالفات الشريرة والعواصف المحملة بكل أنواع الجراثيم وروائح الحقد والكراهية.
ووسط هذا الظلام العربي الحالك، يأتي المرابطون في القدس المحتلة، ليعيدوا الاعتبار إلى الفعل الجماهيري، ويذكّروا الشعوب العربية بأبجدية الغضب الساطع، وموسيقى الهتاف الصادق وإيقاع الحراك الواثق، ثم يصمدون ويقاومون، ويعلنون للدنيا كلها أن المسجد الأقصى ليس الموضوع كله، بل هو أيقونة الصراع، ورمزه العريق، في معركة تحرير الأرض وتحرير الإنسان، وتحرير التاريخ من قبضة سارقيه ومزيفيه، ويسقطون مشاريع المستبدّين العرب لتغيير جغرافيا الوعي والعقيدة، تلك المشاريع التي أسندوا تنفيذها لأمثال يوسف زيدان وأنور عشقي، وعبوات صغيرة من مطبّعين يبحثون عن فرصة للصعود إلى حافلة نتنياهو.
هنا، وبعد أن اهتزّت الأشجار بفعل الغضب الجماهيري، كان طبيعياً أن يهرع حكام المسخرة العربية إلى التقاط الثمار، ثم الاستدارة لقطع الأشجار، كي لا يظن مواطنٌ على الأرض العربية أن الجمهور استعاد قدرته على الفعل.
وعلى ذلك، لن يمر وقت طويل على هذا الإنجاز، الشعبي، المذهل حتى تبدأ إسرائيل وحلفاؤها من الحكام العرب عملية معاقبة الجماهير على اجتراحها المعجزة، وإعادة الاعتبار إلى مفاهيم المقاومة والصمود والتشبث بالحلم.