فيلم "النائب" .. الحقيقة الأمريكية .. وواقعنا اليوم
السبت, 06 يونيو, 2020 - 03:13 صباحاً

"أنت الرئيس والحرب حربك"
 
بهذه العبارة همس ديك تشيني في أذن الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش ليحثه على غزو العراق.
 
حينها كان تشيني الذي يوصف بأنه أقوى نائب رئيس أمريكي نائبا لجورج دبليو بوش خلال مدة رئاسته الممتدة لفترتين (2001-2009).
 
يظهر تشيني يردد هذه العبارة في مشهد من مشاهد فيلم "النائب" أو بالإنجليزية (VICE)، وهو فيلم جرى بثه لأول مرة في الولايات المتحدة في سبتمبر من العام 2018، ويسرد السيرة الذاتية لديك تشيني، وجمع بين الدراما السينمائية الكوميدية وسرد الأفلام الوثائقية، وأعطى هذا الفيلم، وفقا لنقاد الطابع التوثيقي الجاد لأحداث حقيقية، وعمل مخرج الفيلم على نقل لقطات من أحداث واقعية وإدخالها ضمن سيناريو الفيلم.
 
عندما تشاهد الفيلم يجذبك بشدة ويرغمك لاستكمال متابعته، حيث ستجده يتطرق لكثير من الأحداث التي عاصرناها، وكان لها تأثيرها الكبير على واقعنا اليوم، كحرب الخليج الأولى، ثم تفجير أبراج مركز التجارة العالمي، ثم غزو أفغانستان، ثم غزو العراق.
 
تلحظ في الفيلم حرص المخرج على إحضار ممثلين يبدون في هيئتهم الشخصية أقرب إلى الشخصيات التي جسدوها، سواء ديك تشني نفسه، أو دونالد رامسفيلد، وجورج بوش الأب، وجورج بوش الإبن، وكولن باول، وكوندليزا رايس، وحتى زوجة تشيني وإبنتيه.
                     
الفيلم تمضي فصوله على هيئة سرد حكاية يسردها شخص، وهو يتنقل في الأماكن المختلفة للفيلم، ويظهر من وقت لآخر طوال ساعات الفيلم.
 
يتحدث الفيلم عن البدايات الأولى لديك تشيني، وحياته في مدينة ليونكن عاصمة ولاية نبراسكا التي ولد فيها، ويعرج إلى المناصب التي تولاها، كعضوا في مجلس النواب الأمريكي (1979-1989)، ثم عمله وزيرا للدفاع في الفترة (1989-1993)، وظهرت خلال الفيلم ثلاث شخصيات تجسده، إثنتين منها عندما كان صغيرا، والأخرى عندما أصبح كبيرا، وجسدها الممثل الأمريكي "كريستيان بيل".
 
في إحدى الحفلات التي نظمها جورج بوش الأب – كما يحكي الفيلم - يظهر ديك تشيني بجوار زوجته "لين تشيني" التي حققت هي الأخرى تقدما مبهرا من خلال المناصب التي تقلدتها، ويتحدث معها حول الحاضرين، ويأتي الرئيس بوش الأب إليه ويلقي عليه التحية، ويشيد بجهوده، ويخبره بأنه يحتاج إليه دوما، لأنه يثق فيه، ويخبره بأنه يراهن عليه في مساعدة نجله "بوش الإبن" في المستقبل.
 
لحظات بسيطة ويمر شخص في الحفلة، ويكاد أن يقع على الأرض بسبب طريقة مشيه، وحالة الطيش التي يتصف بها، يلتفت تشيني نحو زوجته، ويبتسم الإثنان، وكأنهما يعززان تقييمها لذلك الشخص ومدى تهوره.
 
كان ذلك الشخص هو جورج بوش الإبن، والذي أظهره الفيلم من بداية ظهوره حتى النهاية كشخص مندفع، ويفتقد للثقة والخبرة، قياسا بأبيه، بل ومختلف رؤساء الولايات المتحدة، وبقدر ما أظهر الفيلم شخصة ديك تشيني وتطرق لسيرته الذاتية، بقدر ما قدم صورة عن شخصية بوش الإبن، وأظهره بشكل الأحمق، والمسير، وضعيف الشخصية.
 
كان حينها تشيني وزيرا للدفاع، وأشرف على العملية العسكرية التي تعرف باسم "عاصفة الصحراء" في العام 1991م، ووقعت في الكويت عقب غزو صدام حسين للكويت، ويسلط الفيلم هنا الضوء على دور ديك تشيني أثناء إدارته لوزارة الدفاع.
 
تمر الأحداث، ويختار الحزب الجمهوري بوش الإبن مرشحا له لخوض الانتخابات الرئاسية، وكان اختياره محط استغراب ديك تشيني الذي رأي إن بوش الأبن يستند على شخصية أبيه، وتقدم للترشح ليثبت لأبيه نجاحه، وعلى سرير النوم يهمس تشني لزوجته مبديا قلقه من ترشيح جورج بوش الإبن للرئاسة، وهو بتلك الصفات، مستغربا من موافقة الحزب الجمهوري على ترشيحه.
 
كان وقتها تشيني قد غادر منصب وزارة الدفاع، وظل يعمل في ممارسة تجارته الخاصة، فهو رجل أعمال شهير، وسعى للترشح لمنصب رئيس الجمهورية، لكن شيئا ما حصل، وأعاق حلمه هذا، رغم توفر كل المواصفات فيه، من قوة الشخصية، والنجاح في المناصب التي تقلدها، وإخلاصه للحزب الجمهوري.
 
إكتشف تشيني إن إحدى بناته مثلية الجنس، وتميل للنساء أكثر من الرجال، بل وتزوجت من إمرأة، ورغم صدمته من هذا الأمر، فقد عمل على تطمين ابنته، وأبلغها أنه لايجد مشكلة في ذلك، لكن ذلك حرمه من الترشح للرئاسة، فقد كان يخشى الحملات الإعلامية التي ستنال منه بسبب مثلية ابنته، ولذلك قرر عدم الترشح للرئاسة.
 
مع دخول جورج بوش الإبن المعركة الانتخابية، استدعى ديك تشيني وعرض عليه بأن يكون نائبا له، فكما هو معروف في التقاليد الانتخابية الأمريكية أن المرشح الرئاسي يخوض الانتخابات وقد حدد من سيكون نائبه؟
 
لم يوافق تشيني بالبداية على المقترح، وأبلغ بوش الإبن بأنه سيساعده في اختيار شخصيات أخرى بحكم معرفته بكثير من الشخصيات الأمريكية القوية والمؤثرة، وكان لايزال متخوفا من تأثير الحملات الانتخابية عليه بسبب مثلية ابنته، لكن زوجته أقنعته بأن يوافق على منصب النائب، وكانت حجتها إن النائب في النظام الأمريكي لا يتعرض بقوة للنقد والحملات خلال فترة الانتخابات بسبب التركيز على شخصية الرئيس.
 
وفي حديقة بإحدى مزارع تشيني يلتقي مع بوش الإبن، ويتناولان الطعام، وكان ملاحظا طريقة بوش الإبن في تناول الطعام، وكأنه أبلهاً، ويفتقر للكاريزما، والجدية، والقيادة، وينتهي تناول الطعام بموافقة تشيني على العمل كنائب لبوش عند فوزه.
فاز بوش الإبن بالرئاسة، وأصبح تشيني نائبه رسميا، وهنا تبدأ حقبة جديدة في حياته، فقد دخل المنصب وهو مقتنعا بأن نائب الرئيس في أمريكا يظل منتظرا وفاة الرئيس، بمعنى أن الرئيس هو صاحب القرار، بينما دور النائب يكون ثانوي، ولمهام محدودة.
 
تمضي الأحداث ويصبح تشيني صاحب الكلمة الأولى، وأصبح له مكتبا في أكثر من مؤسسة أمريكية، في البيت الأبيض، وداخل مجلس النواب، وفي السي آي إيه، وغيرهم، ويداوم تشيني في كل تلك المكاتب، ما يعكس مدى التأثير والنفوذ الذي يمارسه ويتمتع به.
 
كان الحدث الأكبر هو استهداف برجي مركز التجارة العالمي في 11 سبتمبر 2001، ويظهر هنا بوش الإبن كرئيس فاقدا للحيلة، بينما يقوم تشيني باعطائه المقترحات والنصائح، ويؤثر عليه ويدفعه نحو اتخاذ القرارات التي اتخذها لاحقا كغزو أفغانستان، ثم إقرار القانون المثير للجدل الذي يعطي قوات الولايات المتحدة الحق في تعقب وقتل من هم ضالعون أو يشتبه انهم ضالعون في الاعتداء عليها في أي مكان بالعالم، وهو القانون الذي تسبب بعدة جرائم ارتكبها الجيش والاستخبارات الأمريكية، وانتقدته منظمات حقوق الإنسان حتى اليوم.
 
أظهر الفيلم تشيني صاحب القرار الأول، وذو الأفكار التي سمحت للولايات المتحدة بالاحتيال القانوني على الضحايا، كاختيار خليج جوانتاموا في كوبا معتقلا لقيادات القاعدة، بدلا من استخدام الأراضي الأمريكية، خشية تعارض ذلك مع القوانين الأمريكية التي تحرم وتجرم كل وسائل التعذيب التي ابتدعها وارتكبها الجيش الأمريكي بعد أحداث العام 2001م مع المتورطين والمشتبه بتورطهم.
 
يظهر الفيلم الواقع المتناقض بين حياة تشيني وعائلته وكل الأمريكيين خلال الحرب في أفغانستان، ففي اللحظة التي كان يجتمع فيها تشني مع عائلته لتناول أفضل المأكولات، والذهاب لأفضل المزارع، والتجول في أمريكا بكل أمان، وذلك حال كل مواطني أمريكا وقتها، تتساقط القنابل والصواريخ لتستهدف النساء والأطفال في أفغانسان، وهي مقارنة تكشف مدى الفارق بين مواطني الدولتين، وتبرز التفوق الأمريكي، وأيضا سقوط الأخلاق.
 
يستمر تشيني في دفع جورج بوش الأب لمزيد من الحروب الخارجية سعيا وراء تحقيق النصر لأمريكا، حتى ولو كان ذلك يقوم على تصورات مغلوطة وزائفة، وعبر اختلاق المبررات، وتقديمها كحقائق، فبعد عام من حرب أمريكا في أفغانستان، يهمس تشيني في أذن الرئيس بوش أن العراق على علاقة بأسامة بن لادن، وأن شخصيات تابعة للقاعدة ذهبت للعراق، وهذا يعني تورط صدام حسين في دعم القاعدة وأسامة بن لادن، ومساهمته في التخطيط والمشاركة في الهجمات التي استهدفت الولايات المتحدة.
 
يحدث جدلا كبيرا في البيت الأبيض عن غزو العراق، ويناقش المجتمعون تقريرا يؤكد عدم وجود ارتباط بين القاعدة وصدام حسين، ويظهر كولن باول وزير الخارجية ومسؤولين آخرين المعارضة لغزو العراق، ويقول أحدهم في الاجتماع إن إسرائيل تعارض شن الحرب على العراق لما سينتج عنها من تأثيرات على المنطقة قد تؤثر على أمنها القومي، ويبدو بوش على وشك الاقتناع، لكن ديك تشيني يسارع لإقناعه بأنها حربا تستحق الخوض دفاعا عن كل أمريكي وعن الأمن القومي لأمريكا، وأنه الرئيس، وهو من يملك قرار شن الحرب أو وقفها، وينتهي الاجتماع بقرار بوش غزو العراق، والترتيب لانطلاق المعركة، وتكليف وزارات الخارجية والدفاع والاستخبارات وبقية المؤسسات بالتهيئة لها.
 
وانطلاقا من ذلك الاجتماع يظهر وزير الخارجية الأمريكي كولن باول أمام مجلس الأمن مدليا بشهادته أن العراق يأوي إرهابيين ويتعاون مع أسامة بن لادن، وأن صدام حسين متورط في مهاجمة أمريكا، وينبغي إزالة التهديد الذي يشكله العراق، وخلال تلك الشهادة يذكر باول اسم أبومصعب الزرقاوي كأحد أخطر قيادات القاعدة المتواجدة في العراق والتي تعمل بتشجيع من صدام حسين، ولها ارتباط ببن لادن وأفغانستان.
 
يقول الفيلم معلقا على هذا الأمر إن الزرقاوي كان مغمورا، ولا يعلم به أحد، وأن شهادة باول التي تابعها الزرقاوي نفسه وأنصار القاعدة على شاشة التلفاز صنعت منه بطلا، وصعد بسرعة، وألتف تنظيم القاعدة حوله، و بدأ بمهاجمة القوات الأمريكية في العراق بعد سقوطه بيد الأمريكيين، وأن ذلك ما كان ليحدث لو لم يتحدث كولن باول عنه بتلك الطريقة التي أدت لشهرته الواسعة.
 
تتواجد أمريكا في العراق، ويظهر الفيلم كيف تحول العراق إلى دمار شامل، وأن لاشيء حقيقي اتضح من جملة المبررات التي تم تسويقها لغزو العراق، وبالتزامن يسلط الضوء على البعد الإقتصادي للحرب الأمريكية في العراق، وكيف أن ديك تشيني أصبح أكبر المستفيدين من حقول النفط العراقية، إذ ارتفعت قيمة شركة هاليبرتون التي كان يديرها إلى أكثر من 500 بالمائة،  وهي شركة كان تشيني المدير التنفيذي لها، منذ خروجه من منصبه كوزيرا للدفاع بعد فوز بيل كلنتون بالرئاسة، وتعمل في مجال الطاقة بأكثر من 120 دولة، ومقرها الرئيسي في ولاية تكساس التي توصف بأنها عاصمة البترول في الولايات المتحدة، بينما يقع قسمها الشرقي في دولة الإمارات العربية المتحدة.
 
تنتهي حقبة بوش الإبن الرئاسية، ويغادر هو وتشيني البيت الأبيض، بعد فوز باراك أوباما من الحزب الديمقراطي برئاسة الولايات المتحدة، بينما ظلت تطارد ديك تشيني تهما كثيرة بدء من فساد شركته وتورطها بامتصاص نفط العراق، ثم بثبوت عدم جدوى غزو العراق وأفغانستان، وتحمله لمسؤولية كبرى في دفع الولايات المتحدة لخوض تلك الحرب.
 
بعد أعوام – وفقا للفيلم – يظهر ديك تشيني على إحدى القنوات الفضائية مدافعا عن قراره في إتخاذ قرار الحرب، مؤمنا بصحة اعتقاده بأن الحرب كانت الوسيلة الأفضل لاسترداد هيبة الولايات المتحدة، وكسر خصومها، والإنتصار على بن لادن وصدام حسين.
 
تكمل مشاهدة الفيلم، وتخرج بالعديد من الاستنتاجات عن تلك الأحداث، وعن صانع القرار في الولايات المتحدة، وعن الضريبة الفادحة التي ندفعها اليوم كأفراد وشعوب ودول وأنظمة في المنطقة بسبب تلك السياسة والرؤية التي يحددها ويصنعها أشخاصا، ويدفع العالم بأسره كلفتها.
 
يعود تشيني لتجارته، ويغادر بوش الإبن ومعظم أركان حكمه وإدارته مناصبهم، بينما تستمر أفغانستان بالفوضى، ولم تنعم بالقيم الأمريكية التي وعدت بها، ويدفع العراق الثمن غاليا من دم أبنائه وأمنه واستقراره وثرواته، والفارق أن من الأمريكيين أنفسهم من يرفضون الصمت على كلما جناه أولئك الأشخاص الذين حكموهم، بينما نحن نتجرع الهزائم والويلات، ولا نستطيع حتى الهمس أو التعبير عن واقعنا الذي صرنا إليه اليوم.
 
شاهد الفيلم، فهو جدير بالمشاهدة، وقد تخرج أنت باستنتاجات أخرى.
 

التعليقات