توكل كرمان واليمن الكبير
الأحد, 16 أكتوبر, 2022 - 07:02 صباحاً

انهمرت الفنانة اليمنية الشهيرة أمل كعدل بالبكاء لحظة تكريمها من الناشطة اليمنية الحائزة على جائزة نوبل للسلام توكل كرمان، أثناء احتفال اقامته مؤسسة توكل بالذكرى الـ59 لثورة الـ14 من أكتوبر في مدينة إسطنبول التركية.
 
هي لحظة تلامس المشاعر، وتهز الوجدان، وتثير في النفس العديد من الأحاسيس والتدفق، ليس فقط لمن تابع أو حضر ذلك التكريم، ولكل لكن من يعرف الفنانة أمل، ومشوارها وعطائها الفني، والعمر الطويل الذي قضته في غناء الأغنية اليمنية، وإطراب اليمنيين، طوال عقود ماضية، فكيف بوقعها على أمل نفسها، وهي بهذا العمر، وقضت شطرا طويلا من المعاناة في حياتها، ثم تجد نفسها في خضم ذلك التكريم، وإطراء الكلام، ووضعها في المكان الفعلي الذي يليق بها.
 
إن أكثر ما يجلب الحسرة للنفس، حين تكون مطلع حياتك في عنفوان عطائك، وألقك وتميزك، ثم حين يتقدم بك السن، تبدأ الوحشة من حولك، وترى نفسك في عالم غريب، بين جيل مضى كنتَ فيه اسما وعلما، وبين جيل راهن لا يقدر لك ما أعطيت، وربما لم يعد يعرفك، وفوق هذا وطن ممزق، يتلاشى كل يوم أمام ناظريك، ويمحو من حياتك ذكريات مشوار طويل من سنوات العمر بكل حلوها ومرها.
 
وفي أجواء هذه المشاعر الممزوجة بالإحباط تجد نفسك أمام من يعطيك منزلتك، ويعترف لك بالعطاء، ويضعك في المكانة التي تليق بك، ويجدد كل شيء من حولك، ذلك ما فعلته توكل كرمان، وهي تكرم الفنانة أمل كعدل، وتذكر اليمنيين والعالم بها، في زمن ذاب فيه الفن، وانتكس الفنانون، وخمدت الأغنية، وصمتت الموسيقا، بينما ارتفعت فيه أصوات الرصاص، وأزيز البنادق، وأمراء الحرب.
 
كلتا المرأتين تمثلان اليوم نموذجين للمرأة اليمنية، فقد حققتا شهرة واسعة، ومكانة رفيعة في المجتمع، وحضور محلي وعربي ودولي، بفضل مثابرتهما، واجتهادهما، وتجربتهما الشخصية، بعيدا عن أي استقواء قبلي، أو مناطقي، أو إرث عائلي، أو انتماء عرقي، أو نفوذ سياسي، بل إنهما يجسدان نموذج النجاح للمرأة التي تصعد من الركام، وتتميز وتصبح في الصدارة، في مجتمع محافظ كاليمن، لا يمنح الفرصة للمرأة لتصبح مؤثرة وناجحة، ويكبلها بالعديد من القيود.
 
أمل كعدل تستحق ذلك التكريم والاحتفاء، عرفانا بما قدمته للفن اليمني، وتقديرا لعطائها ومشوارها الغنائي، الذي أمدت فيه المكتبة الغنائية اليمنية بأعمال فنية خالدة، كانت ولاتزال من أكثر الأعمال الفنية تميزا، وشعبية، فغنت للحب، والوطن، والنسيم المسافر، وعبرت عن مشاعر المشتاقين، وأحزان العاشقين، وكانت لسان حال الفتاة، والثائر، وعاصرت أجيالا من الفنانين، والملحنين، والشعراء، مثلما استمع واستمتع لأغانيها أجيال من اليمنيين والعرب.
 
هذا التكريم لم يكن غريبا من توكل كرمان، فهذه المرأة لها إرث كبير في هذا المضمار، وأسهمت طوال السنوات الماضية في تكريم العديد من الفنانين والشعراء والمثقفين والرياضيين والطلاب اليمنيين، ناهيك عن الأعمال التي تقدمها مؤسستها من مشاريع خدمية وتنموية في عدة مناطق داخل اليمن، لتصنع بذلك نموذجا مميزا للعطاء، والإسهام الفاعل في خدمة بلدها، والقرب من مختلف شرائح المجتمع اليمني.
 
ورغم بعدها عن اليمن، فقد أحضرت توكل كرمان اليمن معها إلى تركيا، وهي الدولة التي تقيم فيها منذ أول سنوات الحرب باليمن، من خلال تكريمها المتواصل للوجوه اليمنية الرائدة، وإحيائها المستمر لذكرى الأيام الوطنية اليمنية، بل وجعلت اليمن حاضرا معها في كل جولاتها حول العالم، وهو ما تجسده خطاباتها ومحاضراتها في العديد من المحافل الدولية عن الوضع في اليمن، وما يعانيه من حرب ودمار وتآمر وخذلان من أبنائها، ومن أشقائها أيضا.
 
برهنت توكل ولاتزال انتمائها الحقيقي لليمن، وبادلت بلدها الوفاء والعرفان، رغم ما تعرضت له من حملات وإساءة من يمنيين وأنظمة ودول، ولم تمنعها الجغرافيا والبعد عن الوطن من أن تكون حاضرة في مدارسه وريفه ومدنه وطرقه ومستشفياته، وفي أوساط طلابه ومثقفيه، وفي حضرة الفن والغناء والكِتاب والشعر والرياضة، وجعلت من الإنسان محور اهتمامها، وظلت ثابتة على المبادئ والقيم التي آمنت بها، ولم تتغير قناعاتها، كما فعل الكثير من السياسيين والنخب والمثقفين، خاصة في ظل الظروف التي عاشها ويعيشها اليمن طوال السنوات الماضية.
 
حضرت توكل في وقت غاب فيه رجال اليمن، وسدت ثغرة كان يفترض أن تقوم بها دولة، ورتقت ثلمة في جسد اليمن، كان آلاف اليمنيين من سياسيين ورجال أعمال ومسؤولين يجب أن يقوموا برتقها، ولعل اقرب مثال احتفائها بالثورة الأكتوبرية في الوقت الذي خجل فيه رئيس اليمن رشاد العليمي وأعضاء مجلسه من الظهور للحديث عن عظمتها والاحتفال بها.
 
سنحتفي بتوكل وهي تصنع كل هذا، تقديرا منا لكل جهودها، واعترافا منا بما تقدمه وتبذله يوما بعد آخر، وسنحتفي بكل يمني، رجل كان أو امرأة يصنع ما تصنعه، في سبيل خدمة اليمن واليمنيين، ورفع اسم البلد عاليا، خاصة عندما يتعلق الأمر بالوطن، الذي يرقى لمرتبة الأم في حياتنا، كما صور ذلك أحد الشعراء بقوله:
 
موطن الإنسان أم فإذا
 
عقّه الإنسان يوماً عقّ أمّه
 
شكرا توكل كرمان
 

التعليقات