أنتُ حيٌّ بقدرِ ما تكافحُ الموتَ داخلَكَ وخارِجَكَ.. عليك أن تحرُسَ حياتَك جيدا.. أن لا تسمحَ للموتِ بالتسلُلِ إلى قلبِكَ وعقلِك.. أن لا تدعَهُ يلتهمُك أو يسلُبُك بعضاً منك..
أنت مسؤول عن حياتِك كما أنّك مسؤول عن مواتِك..
من المُهمّ سُؤالُ نفسِك: كمْ أنا حيٌّ وكمْ أنا ميتٌ.. كم مّاتَ مِنِّي اليومَ والليلةَ,؟ كم مَّات منِّي الآن؟, وماذا مات مني ؟.. كم أنا حيٌّ,؟ وكم أُغَالِبُ الموتَ ودواعي الفناء؟
بالأمسِ شعرتُ بالموتِ يكثُرُ ويكْبُرُ داخِلي، كما لم أشعُرْ بِهِ من قبلُ.. بالأمسِ رأيتُهُ، تبَيّنْتُ ملامِحَهُ, وقررتُ مطاردتَهُ والإمساكِ بهِ في مَجَاهِلِ الرُّوح.
قررتُ استعادةَ حياتي من بينِ أشداقِهِ.. قررتُ الحياة..
وجدتُنِي أُصَارِعُ موتاً كثيراً يُنَازِعُنِي الحياة.. وجدتُ أمامي عملاً إحيائياً كبيراً يتطلَّبُ تشمير العزم
من أين أبدأ تفحُّصَ نفسي؟.. من أين أبدأ جولتي الاستكشافيةَ هذِه، بحثاً عما ذهب ومات فيَّ,؟ بحثا عما صارَ من حظِّ الموتِ, وما بقي من حظِّ الحياة!؟، عمَّا فَسَدَ وتَلَفَ.. عمَّا انطفأ وهَمَدَ.. عمَّا يوشكُ على الذّهاب..؟
ثمةَ أفكارٌ ميِّتةٌ يجدُرُ بك نفْيَها بعيداً، توخياً للسلامة.. وأفكارٌ تعيش حالةَ إغماءٍ, وتحتاجُ إلى إعادةِ إنعاش.. في القلبِ ركامٌ من الموتِ ينتظر التقليبَ, مشاعرُ سوداء نقمة, ضَغائنُ, أحقادٌ، أحزانٌ مقيمةٌ, وهن, سأم, إحباط, بشرٌ بغيضون, عدوانية, كراهية, أدواءَ مُزمنة.. كمْ في القلب من موتٍ يجهزُ على بواعثِ الحياةِ.. كمْ مّن الشرورِ؟ كم مّن العُتْمَةِ المُسْتَحْكِمَة؟..
يا الله..
أعِنِّيْ على كلِّ هذا المواتْ, أحيِنِي بك, أعِدْ وصلِي بمصادِرِ الحياةِ والضياءِ, ومنابِعِ الفرح.
الموتُ والحياةُ مخلوقان فينا، يبتلِيانِنا خلقاً وتجديداً.. هذا للبِلَى وتِلك للجِّدَّةِ والتَّجَدُّدِ ، الحياة اختيارٌ يتطلب مجابهتنا اليومية لمِيْتاتِنا المُعتادةِ.. يتطلبُ حساسيةً مفرطةً بالحياة.. نحنُ نموتُ باختيارنا في الحياة, وما المِيتَةُ الأخيرةُ إلا انتقالٌ لحياةِ الأبد.
"الموت لا يرعب الحكماء، "والوجود ؛ هو هذه الرغبة في اعماقنا، الرغبة في الحياة التى تحملنا على الخوف من المصير الى العدم".
خلقَ اللهُ فينا الموتَ والحياةَ ليبلُوَنَا أيُّنا أحسنُ عملا، ولا يمكن للإنسان أن يكونَ أحسنَ عملاً، إذا لم يحسن العمل داخله, إذا لم يكن أحسنَ عملاً داخل ذاتِهِ في اعماق روحه وعقله . ويلوحُ العملُ الأحسنُ اختياراً ينتمي للحياةِ، هو حصادُ عِرَاكِكَ مع الموتِ وأسبابِ الشقاءِ الباعثة على الإنهزام والنكوصِ والإنطفاء.
وإذَن... نحتاج كلَّ آنٍ إلى التأكُّدِ من حجمِ الموتِ... دواخِلِنا إزاءَ منسوبِ الحياةِ, وما أرانا نظفرُ بحياةِ الخلودِ ونحنُ نخلُدُ إلى موتٍ كثير يسكنُ أعماقَنا وأفكارَنا وتصوُّراتِنا, أقوالَنا وأفعالَنا, نهارتنا وليالينا.. وهل يستوي الأحياءُ والأمواتُ في الحضورِ والغيابِ, هل يستوون عند الحيِّ القيُّوم؟..
يحتاجُ المرءُ – ربَّما- يومياً إلى أن يتحوَّلَ إلى بستانيٍّ جيِّدٍ يتعهَّدُ بالسقيا لما ذَوَى وذَبُلَ داخِلَ روحهِ.. يحتاجُ إلى خِبرةِ مهندسٍ زراعيٍّ يعرفُ أمراضَ الزُّرُوعِ والثمارِ.. يحتاج إلى مهارةِ طبيبٍ، بل ربما أطباءَ بتخصصاتٍ متنوعةٍ.. يحتاج إلى مَسَاءَاتِ عِنايةٍ مركزةٍ.. يحتاجُ الإنسانُ لأن يطمئنَّ كلَّ وقتٍ على حياتِهِ وحيويَّتِهِ ليتأكَّدَ من أن خلاياهُ وجوارحَهُ وحواسَّه كلَّها حيةً تضُجُّ بالحياة.. يحتاجُ إلى أنْ يتلمَّسَ روحَهُ وأشواقَهُ, خفقانَ قلبِهِ, آمالَهُ وطموحاتِهِ, رؤاهُ ونظراتِه وخطراتِه.
أرانا في إدارتِنا لحياتنا لا نلتفتُ كثيراً إلى ما فينا من المواتِ!!. يعيشُ فينا الموتُ ونعيشُ فيه . الفقرُ موتٌ يعودُ إلى فقرِ الرّوحِ وموتُ الإرادة.
و"إن المبدأ الأساس لكل مافي الوجود هو الإرادة بزوال الإرادة يزول الوجود"،
القهرُ موتٌ يبدأُ من داخلِ الروح.
هذا الموت المجاني الذي يترصدنا ليل نهار, بدأ أشكالا وصورا من خياناتنا للحياة ،بدأ خضوعا للشروط السالبةً للوجود إنغماسا في العفن، استسلاما للفناء وعجزا عن الإنتصار للحياة.
من المهمِّ أن نبدأَ البحثَ داخلنا , فكلُّ ما فقدناه ونَفْقِدُهُ نتاج فقدانات بدأت داخل العقل والروح , مواتُنا العامُ, حصادُ مواتِنا الخاصّ.
ثمَّة موتٌ يستوطنُنا ببطءٍ حتى يغدو بعضاً منا، بحيثُ لا نعودُ نراهُ أو نُحِسُّ بهِ.
ومن المهمِّ هنا إعادةُ إحياءِ حساسيتنا ِ بالحياةِ,وتقليب المفاهيمُ والتصوراتُ وإعادةُ التقييمِ والتأكد الدائم من مؤشرات البقاء وأين نقِفُ بين الموتِ والحياةِ.
نحن نفتقد الأحياء. اذ يرحلون. وبقدر. ما كانوا أحياء يكون أسى الموت وألم الفقدان
وتجيء المراثي الناعية موت الكبار كتخليد. لمن عاشوا ازمنتهم بامتلاء وكانت حيواتهم حبا وخصبا وبذلا وبعثا. واحتفاءا غامرا بالوجود.