اليمن في ذاكرة مجلة العربي الكويتية
السبت, 16 مارس, 2024 - 03:28 صباحاً

في سلسلة الاستطلاعات التي انفردت مجلة العربي الكويتية بنشرها على مدى عقود في النصف الثاني من القرن العشرين تحت هذا العنوان الشهير "اعرف وطنك أيها العربي"، كان لليمن شمالاً وجنوباً النصيب الأوفر.
 
وفي الفترة بين 1963م إلى 1970م فقط، شملت زيارات فريق المجلة كلاً من صنعاء وعدن ولحج وصعدة والمكلا وسيؤون ومأرب وأبين وشبام وتريم.
 
وليس جديداً القول بأن المنشور عن اليمن في تلك المرحلة والمراحل الأقدم منها، في المجلات والدوريات المحلية والعربية والأجنبية، من مقالات وقصص وأخبار وحوارات وصور، جدير بالتعامل معه اليوم من جانب المؤرخ والباحث كما نتعامل مع صنف من الوثائق التاريخية عظيمة القيمة.
 
سأعرض هنا، تعميماً للفائدة، بعض ما خرجت به من التنقيب الممتع في أرشيف الأعداد القديمة من مجلة العربي.
 
على سبيل المثال، نشرت المجلة مقالين مع الصور عن صنعاء: الأول عام 1963م، والثاني 1970م.
 
ولعل أكثر ما لفت نظري في المقال الأول 1963م، إشارة الكاتب (سليم زبال) إلى قرارين أصدرتهما الحكومة الجمهورية الجديدة التي لم يكن مضى على قيامها سوى عام واحد:
 
⁃ قرار بإلغاء جباية الزكاة قسراً، وتركها أمانة في ضمير كل يمني يؤديها من تلقاء نفسه متى استحقت عليه.
 
⁃ وإعفاء التجار من دفع الضريبة على أجهزة "الراديو" التي كانوا يستوردونها من الخارج عن طريق ميناء عدن -بحسب المقال- إيماناً من الحكومة بأهمية الإذاعة كوسيلة اتصال وحيدة متاحة للتخاطب مع الشعب وذلك قبل توفير مطبعة وصحافة [ابتداءً من ذلك العام تقريباً]، فكان كل صنعاني -كما يقول الكاتب- يحمل بيده جهاز راديو أو ترانزستور.
 
لفت انتباهي كذلك في هذا المقال إشارة الكاتب إلى أن عدد سكان صنعاء كان يبلغ حينها -أي بعد عام واحد فقط من قيام ثورة 26 سبتمبر- حوالي 60 ألف نسمة.
 
وفي المقال الثاني الذي نشرته المجلة بعد زيارة ثانية من فريقها لصنعاء عام 1970م، يفيد الكاتب نفسه وبدهشة كبيرة أن عدد سكان صنعاء أصبح 170 ألف نسمة، ما يعني أنه ارتفع ثلاثة أضعاف ما كان عليه قبل 7 سنوات.
 
لهذه الزيادة وحدها دلالة تاريخية مهمة في مسار تكوين اليمن،
 
وأيّ دلالة!
 
وافتتحت المجلة استطلاعها المصور عن عدن المنشور في عدد يوليو 1964م بهذا الوصف البانورامي: "عدن بلد عجيب يجمع بين المتناقضات والمتنافرات، فمتاجره تنفتح فى أي ساعة من الليل أو النهار، ما دامت هناك باخرة جديدة في الميناء!!
 
وأهله يجففون مياه البحر ليقيموا عليه مدنهم بعد أن ضاقت بهم اليابسة على الأرض!!
 
وفي عدن أجمل الشوارع والعمارات، ولكن تستظل بها أقبح الأزقة والأكواخ..!!
 
وفيها أحدث ما وجد من الكماليات والضروريات.. ومع هذا لا يزال أهلها يؤمنون بأن وليهم -العيدروس- قد طير حجراً من أعلى الجبل ليسد ثقباً في سفينة جانحة، فأنقذها من الغرق!!
 
والأوروبيون في عدن يتسابقون باليخوت، ويمارسون رياضات الجولف والتنس والسباحة والصيد، بينما يكتفى المواطنون بلعب الكرة ومضغ "القات" مساء كل يوم!!".
 
ونشرت المجلة أيضاً في عدد يونيو عام 1965م، تقريراً مصوراً عن المكلا،
 
وما أكثر الأشياء التي استوقفتني فيه!
 
ستعرف من التقرير أن ميزانية السلطنة القعيطية في ذلك العام (1965م) بلغت 850 ألف جنيه استرليني.
 
ثم تجد تعقيباً من المحرر يقول فيه : "ولكن تضخيماً للرقم يحولونه إلى شلنات فيقولون: الميزانية 17 مليون شلن. والشلن المذكور هنا هو شلن شرق أفريقيا الذي ظل العملة الرسمية في المكلا وحضرموت حتى مطلع شهر ابريل 1965م، ثم استبدل بالدينار والفلس، وهما عملة "الجنوب العربي" الجديدة المدعمة بالاسترليني، والقابلة للتحويل إليه".
 
تواصل القراءة، فيخبرك التقرير أن "المسئول عن صرف هذه الميزانية هي حكومة السلطنة القعيطية التي يرأسها - لأول مرة - وزير من أبناء حضرموت هو أحمد محمد العطاس الذي تقلد منصبه منذ عشرة أشهر فقط مع مجموعة من الوزراء من أبناء بلده، بعد أن كانت المناصب الوزارية في السابق مسندة إلى نفر من غير أبناء البلاد.
 
فمثلاً كان الوزير الأول هندياً، يدعى جهان خان، وكان وزير الداخلية زنجبارياً ووزير المالية باكستانياً، ومدير المعارف سودانياً".
 
كلما تقدمت في القراءة، يكافئك كاتب التقرير بمعلومة جديدة.
 
خذوا مثلاً هذه الفقرات كما وردت: "إن مسئولية الحكم تقع اليوم على الوزير الأول، لأن السلطان أصبح في وضع يمكن أن يقال عنه انه يملك ولا يحكم، فمجلس الدولة باعضائه الـ 17 المعينين، ومجلس السلطان بأعضائه الخمسة المختارين من أعضاء مجلس الدولة، هم المسئولون عن التشريع والقوانين وتسيير الأمور في أنحاء السلطنة.
 
وخلف كل هؤلاء يقوم المستشار البريطاني الموجود طبقاً لاتفاقية عام 1937 وان كانوا يقولون ان "الوعد الأكيد" بمنح الاستقلال لحضرموت قبل عام 1968 يجعل مهمته شبه منتهية.. هذا اذا صدقت الوعود، وحسنت النيات!"
 
كما يحتوي التقرير أيضاً على معلومات مهمة عن تاريخ التنقيب عن النفط في حضرموت حتى عام 1965م.
 
وتحت عنوان جانبي "حديث النفط"، نقرأ السطور التالية: "إن المكلا، ومعها حضرموت كلها، تعيش على الأمل في اكتشاف آبار للنفط في البلاد فهناك، في منطقة، تبعد نحو 300 میل شمال المكلا، اختلطت آثار القوافل وحداء الجمال بأصوات الحفارات الضخمة وهي تثقب الأرض الصخرية بحثا عن الذهب الأسود ان كثرة الحديث عن النفط جعلت الناس يخرجون عن اتزانهم، فيتحدثون عن النفط وكانه انبثق فعلا!
 
ولكن سرعان ما تصطدم الأماني بالواقع، وهو عدم العثور على قطرة نفط واحدة حتى الآن. ويهمس بعضهم الى بعض: انها السياسة اللعينة تتلاعب وتفرض علينا هذا التلكؤ والتأخير فى الكشف عن السائل الثمين، الذي أكد لنا بعض الخبراء أنه موجود وأنه من أجود أنواع البترول في العالم.
 
إن الحدود بين السلطنتين القعيطية والكثيرية لم تكن مرسومة في يوم ما، كانت البلاد كلها وحدة واحدة.. ولكن احتمال وجود الذهب الأسود جعل رسم الحدود أمرا ضروريا.. ومن هنا نشب الخلاف بين الطرفين على بعض الأجزاء، اذ أن فكرة التنازل عن بضعة كيلومترات في هذه المناطق النائية التي لم يكن يسلكها أحد ، تعنى في وقتنا الحالى التنازل عن ثروة وأى ثروة!
 
وحلاً للخلاف أصبحت المناطق المتنازع عليها مناطق محايدة، تقسم ثرواتها: الثلثان للسلطنة القعيطية والثلث للسلطنة الكثيرية.
 
تبدأ قصة النفط في حضرموت منذ نحو 30 عاما، عندما قامت شركة .P.C.L أي Petrolium Concession Limited للبترول باجراء عملیات مسح جوي وجيولوجي في المناطق الشمالية للبلاد.. وبعد مضي 25 عاما كاملة اختلفت الشركة مع حكومتي حضرموت اللتين سحبتا منها الامتياز ومنحتاه في عام 1961 لشركة "بان أميريكان" للبترول".
 
وفي حديثه مع فريق العربي، يرسم الوزير الأول في السلطنة القعيطية أحمد محمد العطاس صورة قاتمة عن الأحوال في السلطنة.
 
ومما قاله: "ينقصنا كل شيء، فالخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية شبه معدومة. ودخل الفرد ينخفض إلى أدنى حد في العالم.
 
وإلى جانب هذا، تحيط بنا الكوارث والنكبات من كل صوب فنكبة الحضارمة في المهاجر وعودتهم الى بلادهم، قلبت جميع الموازين في البلاد.
 
فالسفن تحمل الينا الألوف من المهاجرين الحضارمة العائدين بعد أن صودرت ممتلكاتهم وأموالهم وأراضيهم، في كل من اندونيسيا، وجاوا ، وكينيا، وتنجانيقا، وزنجبار حتى الصومال بدأت فيها حركة سحب التراخيص من تجار التجزئة وأغلبهم من الحضارمة.
 
ولكننا نحمد الله على ان الحضرمي لا يستكين، فبعد أن يجلس قليلاً فى بلده، تجده يعمد ثانية الى الهجرة والترحال حتى أصبحت أهم صادراتنا هي الجنس البشرى، نصدره على السفن والطائرات من موانىء المكلا، بمعدل سنوي يبلغ عشرة آلاف حضرمي، كانت وجهتهم في الماضي نحو الشرق الأقصى وسواحل افريقيا أما اليوم فانهم يتجهون الى بلاد اخوانهم العرب في السعودية والخليج العربي وغيرهما".
 
ويتابع الوزير الأول حديثه فيقول:
 
"أما نكبتنا الثانية فتتمثل في التمباك محصولنا الزراعي الرئيسي، الذي كان تصدیره گله متجها الى الجمهورية العربية المتحدة واليمن ومنذ ثلاث سنوات بدأت الكمية المصدرة منه تنخفض حتى هبطت الى الحضيض بسبب قيود الاستيراد الجديدة في البلدين الشقيقين، وكانت هذه ضربة قاسية للمزارع الذى كسدت تجارته، وبارت بضاعته بسبب اغلاق الأسواق في وجهه".
 
وينتقل حديث العطاس الى البترول فيقول:
 
"يهمني أن أقول لك ان ما يشيعه البعض من اننا نرفض الوحدة والاتحاد مع بعض جاراتنا [يقصد السلطنة الكثيرية] بسبب احتمال ظهور البترول فى بلادنا، ما هو الا محض كذب و اختلاق.. فنحن طلاب وحدة، وحدة يؤخذ فيها رأينا، ولا تفرض علينا، أما هذه النظرة الانانية الضيقة نحو البترول فلم تكن أبداً صفات أبناء حضرموت الكرماء، لأن الخير اذا اتانا فسوف يفيض ليشمل كل اخواننا وجيراننا".
 
كان كاتب التقرير (سليم زبال) قد أكد في البداية أن المكلا بعد 900 سنة من بنائها، في أواسط عام 1965، تمر بأصعب وأدق فترة في تاريخها: "إنها فترة انتقال يتصارع فيها الماضي والحاضر وتتشابك فيها الآمال والوعي والاندفاع بمرارة الواقع من تأخر، وتردد، ونكبات ترج البلاد رجاً دون أن تجد ما يوقفها".
 
في المقطع الأخير من التقرير، نعثر على هذه الملاحظة الجديرة بالتأمل: "وتقف مشكلة تحقيق الوحدة الحضرمية، بين القطاعين القعيطى والكثيرى، موقفاً غريباً، فالمفاوضات حولها تدور سنوياً منذ خمسة أعوام دون أى نتيجة. بالرغم من أنها مطلب شعبي وخطوة أولى نحو تحقيق وحدة الجنوب انتظار الوحدة الكبرى".
 
وعندما وصل فريق المجلة إلى صعدة عام 1974م كان الموتى في استقبالهم، فالمقابر هي التركة الوحيدة تقريباً التي أورثها الأئمة في هذه المنطقة اليمنية العزيزة.
 
وقد نشرت المجلة تقريراً مصوراً عن صعدة تحت هذا العنوان الغني بالدلالات: "صعدة على طريق الانفتاح.. بعد انغلاق استمر أكثر من ألف عام".
 
ولو ذهبت في البحث إلى إرشيف المجلة في مطلع الستينات من القرن الماضي، ستجد مقالين للشاعر والثائر والزعيم الوطني محمد محمود الزبيري، كتبهما من المنفى.
 
المقالة الأولى نُشرت في عدد سبتمبر 1960م، قبل الثورة بعامين، وكان عنوانها "الحضارة اليمنية القديمة.. ما سرّ انهيارها؟".
 
أنقل منها هذه الفقرة: "وكانت الطبيعة اليمنية كالجواد الشَّموس لا بد له من مدرب بصير فارس يروضه ويشكمه ويثيره بمهمازه في اعتدال ورفق. وعلى المدرب أن يكون يقظاً مرناً سريع الملاحظة منتصباً بفكره وأعصابه على ظهر جواده، فإن هو غفا أو تشاغل أو تراخت عزيمته جمح به جواده ورمی به الى الارض".
 
المقالة الثانية نُشرت في عدد نوفمبر 1960م وعنوانها "اليمن القديمة بين الأسطورة والتاريخ"، وهي أجمل وأعمق من المقالة الأولى.
 
يشعر القارىء في هاتين المقالتين بألمعية الزبيري في نظرته لتاريخ بلده، فلم تؤثر عاطفته الوطنية القوية على سلامة المنطق وصفاء الرؤية.
 
 
 

التعليقات