لا يعني تجديد الأغنية التراثية تغيير اللحن، بل إعادة صياغته، وترتيب المقطوعات الموسيقية، وتعديل إيقاع الأغنية لجعلها أكثر حيوية تناسب ذوق الجمهور الحالي. هذا التوجه ينبع من رغبة ملحة في الحفاظ على التراث الغنائي، وضمان استمرارية هذه الأغاني، ونقلها للأجيال القادمة، من خلال توظيف تقنيات موسيقية حديثة تجذب شريحة جديدة من المستمعين، خاصةً الشباب، مما يعزز الشعور بالهوية الثقافية.
تجديد اللحن والأغنية مهمة شاقة تفوق بكثير عملية تلحين أغنية جديدة. فالأغاني التراثية، خاصة تلك التي تعود إلى قرون خلت، تحمل عبق التاريخ وتجسّد هوية شعب بأكمله.
لا أجد فناناً يمنياً خدم الأغنية اليمنية مثل الفنان أحمد فتحي، الذي تميزت مسيرته الفنية منذ بداياتها بالتنقيب العميق في تراث الأغنية اليمنية بكل ألوانها واطيافها المتنوعة. لم يكتفِ فتحي بتقديم نفسه كفنانٍ موهوبٍ، بل سعى جاهداً لإحياء هذا التراث العريق وتطويره، مستفيداً من دراسته الأكاديمية للموسيقى وإبداعه الموسيقي.
منذ انطلاقته كفنانٍ وملحنٍ وعازف عودٍ متميزٍ في مطلع الثمانينيات، لم يُركز أحمد فتحي على الجانب الشخصي من مسيرته الفنية، بل جعل همَّه الأساسيّ التنقيب في تراث الأغنية اليمنية وإعادة إحيائه، رغم النجاح الواسع الذي حققته أغنيته الشهيرة "إن يحرمونا" - من كلمات الشاعر الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح.
ويبدو أن لقاء الفنان احمد فتحي بالفنان اليمني الكبير أبو بكر سالم في القاهرة لعب دوراً محورياً في تعزيز شغفه بالتنقيب في تراث الأغنية اليمنية. ففي اللقاءات المتعددة التي جمعتهما، لم يَخفِ أبو بكر سالم إعجابه الشديد بالفن والتراث الصنعاني، خصوصاً تميز هذا التراث بالألحان الطويلة التي تتطلب إمكانيات صوتية استثنائية، مما يتناسب مع قدرات أبو بكر سالم الصوتية.
بإلهامٍ من أبو بكر سالم، شرع أحمد فتحي في رحلته الصعبة لإعادة إحياء التراث الصنعاني. وقد بدأت هذه الرحلة بمجموعة من الاغاني من بينها "رسولي قم بلغ لي إشارة"، "أحبة ربا صنعاء"، وامعلق بحبل الحب من فوق الأغصان". وهي من أشهر أغاني التراث الصنعاني - حيث قام فتحي بتجديد ألحان هذه الأغاني، وإضافة الموسيقى إليها، وقدّمها بعد ذلك للفنان أبو بكر سالم، الذي أبدع في غنائها بصوته العذب. وفي بعضها شارك الفنان أحمد فتحي بالعزف على العود، ضمن الفرق الموسيقية، مثل اغنية "رسولي قم وبلغ لي اشارة"، مضيفاً لمسةً موسيقيةً مميزةً أكملت سحر اللحن المُجدد.
من خلال هذه الأغاني وغيرها، من أغاني التراث اليمني الثري بمختلف ألوانه، وجغرافيته، أثبت الفنان أحمد فتحي عبقريته الموسيقية ومهارته الفائقة في تجديد التراث دون المساس بجوهره، مما نالت هذه هذه الأغاني والألحان المجددة، إعجاباً كبيرًا من قبل الجمهور والنقّاد على حدٍ سواء داخل وخارج اليمن، ممّا يؤكّد عظمة التجديد في اللحن وإضافة الموسيقى التي قدمها.