نحن بلا قيادة
الأحد, 28 يوليو, 2024 - 07:46 مساءً

تتمثل نكبة اليمنيين في أن خيباتهم وأزماتهم تأتي دائماً من قياداتهم السياسية والحزبية على مدار الأربعين عاما الأخيرة من عمر النظام الجمهوري، بل كانت هذه القيادات هي من أطاح بآمال التغيير وبناء الدولة، وكانت هي سبب الإخافاقات والصراعات بين كل منعطف وآخر.
 
وباستثناء مرحلة ثورة 26 سبتمبر التي أخرجت لنا كوكبة وطنية من القيادات الشريفة والكفؤة التي  كانت على مستوى الدور والتحديات؛ إلا أن المراحل التالية عمر الثورة والجمهورية منيت بقيادات أقلَّ جدارة ودون المشروع الوطني الذي حملته الثورة ورموزها الأوائل.
 
وقد كان لقوى المصالح والحسابات الضيقة لغة أخرى في إجهاض كل الرموز والمشاريع الوطنية في مهدها منذ لحظات الميلاد الأولى، لندخل بعدها فترة غياب أو عقم تاريخي عن ولادة قيادات حقيقية تلبي تطلّعات هذا الشعب وتعبر عن مكانته وعظمته.
 
ولقد مثل مقتل الرئيس الحمدي اللحظات الأولى من دخولنا هذه المرحلة التاريخية التي تدشنت بالرصاص ورافقها مشهد الصراع والدماء في كل تحولاتها ومساراتها الطويلة حتى اليوم.
 
كان الشهيد الحمدي ربما أبرز القيادات الوطنية التي استطاعت أن تترجم أهداف سبتمبر إلى مشاريع وتطلعات وطنية، وأن تؤسس لمشروع وطني يحمل معه ملامح الدولةِ الحديثة؛ لكن من سُوء حظ اليمنيين أن قيادة هذا المُلازم لم تستمر؛ حيث اغتالته الأيادي الآثمة، واغتالت معه مفهوم القيادة والدولة معاً، لندخل في أزمة حقيقية للقيادة امتدت لأكثر من أربعين سنة، وإن في ظل أنظمة وقوى توالت على حكم البلاد.
 
رمتنا الأقدار بعده بالمقدّم"صالح"، وحاول أن يصنع من نفسه قائداً بحجم الوطن، ولكن بحساباته ومعاييره الشخصية، وغلبت عليه نوازعه وأطماعه في التفرّد بالسلطة والثروة، فضلاً عما كان يعانيه أصلا من تشوهاتٍ نفسية ظلت مؤثرة في تفكير وسياسة الرجل إلى أن سقطت "دولته" في أول مواجهة حقيقية مع أطماع العودة الإمامية التي أضاع تاريخه بالتحالف معها وتلك مفارقة لم يرتكبها غير" الزعيم"..!
 
لقد ترجم "صالح" في حياته معنى آخر للقيادة شائها وبعيداً عن المعنى الواقعي والمثالي بعظمته وقيمه الإنسانية والأخلاقية والمهنية، كما انتهج مسارات خاطئة لم تكسبه شرف هذا الوسام الوطني الرفيع بقدر ما جسّدت مواصفات التثعلب والاحتيال والفذلكة والبهلوانية التي أودت به في نهاية المطاف.
 
لم يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لرموز الأحزاب التي وضعت نفسها في موضع القيادة وتبنّي آمال الجماهير، لكنها سرعان ما تماهت مع مشاريع الفساد وتزاوجت مع قوى المصالح والاستبداد لتخذل آمال شعبها وجماهيرها، وغلبت عليها الانتهازية والأنانية حتى بدت نسخة أخرى من النظام الفاسد، فيما لا يزال بعضها متمسكا بمنصبه الحزبي والوظيفي حتى اليوم، وربما حتى آخر رمق، ولو على حساب القضايا الوطنية والجيل القادم.
انفجر المشهد بالجميع في 2011، في ثورة شبابية عارمة أحرجت الحاكم وقيادات المعارضة على السواء، كما أنها وضعت قيادة المشترك بالذات أمام محك حقيقي وتحدٍ سياسي كبير تمثل في اختبار شجاعتها وقدرتها على الانتقال من التنظير والشعارات إلى رهانات عملية، وتشكيل بديل سياسي قوي لقيادة مرحلة "ما بعد صالح" وهو ما فشلت فيه أيضاً.
 
ومع تقدّم الحوثي لإسقاط "العاصمة" تكشّفت حقيقة قيادات سياسية وعسكرية واجتماعية هنا وهناك، حيث ذهب بعضها إلى التواطؤ مع المليشيا، فيما فضّل بعضها الهروب والتواري عن المشهد، وانتقل بعضها إلى مدن وعواصم عربية وعالمية للاهتمام بمشاريعها وعائلاتها ومصالحها الخاصة، والاكتفاء بالتفرج على احتراق البلد، وإن بدا بعضها في أدوار سياسية عقيمة لم تقدم شئياً ملموساً في حسم المعركة واستعادة الدولة.
 
الحقيقة المُرة أن تلك القيادات خذلتنا جميعاً في أحلك الظروف وأخطر المراحل، التي يمر بها الوطن.. ومن يتصوّر أن يقبل الرئيس هادي لنفسه بذلك الرحيل المفاجئ؟! ومن يصدّق أن يختار الجنرال "علي محسن" مغادرة الفِرقة والوطن معاً، والمكوث في أحد قصور الرياض، وهو صاحب العبارة الشهيرة: "لن تدوم فرحتهم ولن بديطول غيابنا"، ومثله اللواء "غالب القمش"، و"أحمد علي"  و"اليدومي"، وغيرهم من قيادات طالما كنا نراهن عليها لكنها قررت النجاة بنفسها، وتركت المواطن يصارع لوحده التمساح الحوثي.
 
 قبل سنتين، فاجأنا التحالف بالإعلان عن تشكيل "مجلس القيادة الرئاسي"، وهو جنين سياسي"خارج الرحم" أنجبته الرياض برؤوس ثمانية تحمل في تركيبتها مأساتنا وعوامل انقسامنا وهواننا.. وهي رسالة ربما تعمّدت دول التحالف إرسالها إلينا لنقرأ أنفسنا جيداً.. كما حملت عنوان المرحلة القادمة التي أرادها الأشقّاء ليمن أضناه الصراع والبحث عن قائد..! 
 
ومع ولادة "مجلس الثمانية" ما زال يتملكنا الشعور بالحاجة إلى إلى قيادةٍ وطنية شجاعة قادرة على إدارة البلد، وامتلاك قرار حسم المعركة مع الحوثي.
 
هذا العجز القياداتي تعمّقت معه مأساة البلد، وتصحّرت مكاسبه وأمانيه، وتعطّلت فيه المشاريع والإمكانات الخلاقة، ولم تعد تغني عن اليمن "جغرافيته" المتميزة، ولا ما يمتلكه من المقومات البشرية والطبيعية، وكأنما خلقنا للهزيمة والهوان والقبول بالاستلاب والوصاية الخارجية.. كل ذلك بسبب غياب القائد الوطني.
 
هذا العجز الفاضح تجاوبت معه مشاهد الحياة، حيث توقف إصدار النفط، وتعطلت الموارد والموانئ، وتغلقت الطرق، كما توقفت الجبهات عن خوض المعركة الوطنية، وما ذاك إلا انعكاس طبيعي لعجز تلك القيادات، وتوقف تفكيرها، وإرادتها الوطنية المفترضة. 
 
وحين يجود الزمان بقائد حقيقي تتحرك البلدان، وتعمَّر الأوطان، وتزدهر المشاريع، وتحسم المعارك، ويُكتب النصر، وتتحقق التنمية، ويذهب العجز والفقر.. ومن يتأمل حال تركيا وسنغافورة وغيرهما من البلدان، التي حظيت بقيادة وطنية، يجد شاهداً على ما أقول.
 
وإلا ما معنى أن تنهزم جيوش وأحزاب ومشايخ وقبائل وجيوش أمام مليشياتٍ قليلة ليس بمقدورها الصمود أمام لحظة ثورية، أو غضبة شعبية صادقة يصنعها قائد وطني شجاع.
 
حين ظهر القائد "المخلافي" في تعز هبَّت الجموع لقتال المليشيا، واشتعلت المعركة، وحمل الشباب السلاح، وأطاح "أصحاب البنطلون" بغرور المتبندقين. وحين غاب القائد عادت المدينة إلى العيش تحت الحصار الحوثي والمناكفات الداخلية وتنظيم المظاهرات لاستجداء الخارج.!
 
وحين وُجد القائد "بن عديو"، تحرّكت شبوة، ونهضت فيها المشاريع، وتحركت مسيرة التنمية، وتحقق معنى التلاحم القبلي، وحين غاب القائد عاد كل شيء إلى التعطل والجمود والاندثار، وتوقفت المشاريع والموارد، وانتعشت الثأرات والاختلات الأمنية.
 
ظل الحوثي يتلاعب بحركة السوق والاقتصاد، ويبتز الحكومة بالورقة الاقتصادية، وحين تولّى "المعبقي" إدارة البنك المركزي، ذهبت سطوة المليشيا، وارتفع صراخها من بضعة قرارات حيوية أعادت الاعتبار للشرعية، وأدَّبت الحوثيين، وعرَّفتهم حجمهم، وأظهرت لهم الفرق بين المليشيا والدولة.
 
‌ويبقى السؤال الأهم: من الذي يقف وراء كبح واحتواء وتصفية القيادات الوطنية، أو إزاحتها عن مواقع القرار والتأثير؟ ولمصلحة من..؟!
 
‌هذا سؤال خطير يجب الإجابة عليه حتى نعرف سر نكبتنا، وعجزنا الفاضح عن دفع التمدد الحوثي، والاستلاب الخارجي.

هناك آليات ومكائن و"كمائن" ظلت تشتغل على طول الطريق في  تصفية الأحرار  والمخلصين من أبناء هذا الوطن، وقد آن الأوان لكشفها وتعطليها حتى لا نُمنى بمزيد من الخسارات والهزائم.
 
ختاماً: ما أريد قوله أننا نعيش بلا قيادة في ظل سلطة الشرعية القائمة، وإن مأساتنا ليست في ضعف الدولة، وقلة الإمكانات، وانعدام الموارد، وليس في تمدد المليشيات وقوتها، أو ما تلاقيه من دعم خارجي وتواطؤ أممي، ولا في صعوبة الظروف وكثرة التحديات التي تحيط بنا من كل اتجاه، بل في قيادات ركيكة قبلت بالرضوخ والوقوع تحت الوصاية والإملاءات الخارجية، وليس لديها الجُرأة الكافية لامتلاك قرار الحسم، والفصل في القضايا المصيرية، وخوض معركتها الوطنية حتى النصر. 
 

التعليقات