يظهر أحدهم ـ المشاط ـ في ميدان ليشتري "الجلجلان" والذي يعتبر حلوى من حبات السمسم، ليروج حينها الأتباع أنه ممثل حصري لوجه للدولة المتواضعة التي تتلمس حاجة الناس، بينما في المقابل يغلق آلاف المحلات ويجبر مئات الآلاف من المواطنين على دفع إتاوات وتكاليف الميلاد النبوي استغلالاً ونهباً بدون وجه حق، دون توفير أدنى مقومات الحياة أساسية أو غيرها.
الآخر يمثل الدولة المعترف بها "مجلس الرئاسة" ويمثل ملايين الناس، شكلت زياراته لمختلف المحافظات اليمنية حضوراً مفاجئاً للسياسة والأمل، يفتتح عدداً من المشاريع ويرسخ الحضور القوي لمعنى الدولة، وهذا ما دفع جميع المواطنين ليعبروا عن فرحتهم العامرة وسعادتهم الغامرة، لتخرج الناس عن بكرة أبيها "بالزغاريد والبرع والاحتفالات" فرحا وابتهاجا بالتواجد الشكلي ولو الجزئي لرائحة الدولة المسلوبة التي تعيش في حالة الضعف والركود والتي يتعطش اليمنيون لرؤيتها ترفرف أعلامها شامخة في كل جبل وواد ومدرسة ومبنى حكومي، وهذا هو السبب الرئيسي بالإضافة إلى شخصية العليمي السلسة غير الصدامية مع السياسيين من مختلف الأطياف.
إنها انتفاضة مفاجئة على الركود السياسي، يدهشنا فيها العليمي بثلاثية الزيارات المشكِّلة استراتيجية مختلفة، تعبر عن الانتقال في سياسة التحالف العربي بالأخص المملكة العربية السعودية من الراعي المحتمِل كل تكاليف الحرب إلى مفوض لإدارة ذاتية جزئية تحت إشراف الرئاسة اليمنية والسفير آل جابر.
الزيارة الأولى إلى مأرب، وتبدو رمزية أكثر من كونها ذات مصالح وترسيخ النظام والحكم إذ أن مأرب صمدت من بين كل المحافظات وحافظت على نظام الدولة وشكلها المنشود الذي يحلم به كل يمني في الداخل والخارج فهي موطن الجبهات والتضحيات وآية الصمود والانتصار على المصالح الشخصية والنظرات الضيقة المحدودة والمناطقية والأحزاب والخلافات، كل الأطراف انطوت تحت بوتقة الجيش والأمن والشرطة والمحكمة والمرور، خماسية يجمعها مسمى الدولة والقانون.
لن يزدها العليمي نمواً أكثر مما قدمه لها السلطان ولن يمدها بالأمن أكثر مما شعر به حين كان يجوب شوارعها ويتنقل بين أكنافها؛ فهي السور الذي ترزح إليه الجمهورية بثقلها المنهك وكتفها المتهالك.
لذلك تبدو زيارة نوعية، اعترافٌ ووفاءٌ للقيادة الحكيمة والجيش المناضل والشعب الأبي الذي حطم أحلام الانقلابيين وكسر أنوفهم ورماهم إلى مزبلة التأريخ.
أما حضرموت الحضارة فإن الزيارة لها بُعد سياسي واقتصادي، لعل أبرزها صناعة أو بالأحرى تجربة نموذج للمحافظات الأخرى في الطريق نحو النهضة والتغيير، لكنها تجربة مقيدة إذ أنها إن نجحت فلن يستقيم تعميمها على بقية المحافظات مع اختلاف الرؤى والأحزاب السياسية والحزبية والفكرية.
بالإضافة إلى ما سبق فإن التواجد المحموم للإمارات في سقطرى والمناطق الجنوبية قد يكون من أهم الأسباب التي أدت لتلك الزيارة، فلسان الحال قائلٌ بالحرف: نحن هنا، قريبون منكم، وكما وصلنا إلى حضرموت وعدن ومحافظات النخبة الإماراتية التي لم تكن تعترف بوجود الدولة فإنا قادرون على العودة إلى كل مكان من جديد.
"وما أشبه الليلة بالبارحة" فإن زيارةً أخيرةٌ تقود تحولا سياسياً آخر، ومن إهمال وحصار إلى تقدير واهتمام، فبعد أن كانت تعز الثقافة غائبة عن اهتمام الدولة والراعي المخرج لفيلم الحرب، تعود اليوم إلى أول صفحات السياسة اليمنية كما كانت قبل الحرب، إذ أنها قد أثبت حضورها وزخمها بنفسها، وجعلت المقاطعين يركعون احتراماً لصمودها ولا يجدون سبيلاً إلا أن تكون ضمن أوراقهم واهتماماتهم.
لن أطيل كثيراً ولكن،،، هناك احتمالات كثيرة لهذه الزيارات أذكر منها اثنين فقط:
الأول: أن الضغط السعودي الداخلي والشعبي قد أدى دوره على الحكومة ورأت أن هناك نفقات كبيرة تصرف على حرب لا فائدة لها منها بعد عشرات السنين، إذ لم يتم القضاء على الحوثي الانقلابي ولم يتم وضع حد لضعف الشرعية والتخلص من نفقاتها وتبعات عملها، ومن جهة أخرى لم تسلم استثمارات السعودية والمراكز الحيوية من صواريخ الحوثي، وعلى هذا قررت القضاء على خطر الحوثي من جهة لكن بسواعد اليمنيين، وترك المجال للشرعية من جهة أخرى تقوم بعملها وتعتمد على نفسها، وعليه كانت زيارات العليمي واهتمامه بالمشاريع التنموية وهذا قد يبعث الأمل مالم يكن هناك احتمال آخر يتبلور في التصالح مع الحوثيين كما يشير محللون وسياسيون.
الثاني: أن العليمي قام بالتحرك من نفسه وهذا يستبعد تماماً إذ لو كان كذلك فسيتم إقصاؤه وإخراجه من المشهد بشكل كلي، وعليه فمن وجه آخر، إن كان التنفيذ بالاتفاق مع السعودية فيدل على الرضى التام عنه وبالتالي لن يحصل تغييرات في المجلس الرئاسي في المدى القريب على الأقل إلا في أعضاء ترى السعودية عدم فعاليتهم ولا جدوى من وجودهم مثل الانتقالي الذي يمثل عبئا على السعودية ويخدم مصالح الإمارات فقط، وربما يقوض التواجد السعودي والحاكمية لها في الجنوب ولذلك نرى أن المحور السعودي بدأ بقص جوانح الانتقالي بعدة أساليب والعمل على تعرية قياداته إعلاميا وملاحقة بعضهم قضائياً.
أخيراً: الملفت في الأمر أن السعودية لم تكتف بالدور الكبير المتمثل في الوصاية على اليمن والحامل قضية استعادة الشرعية، فهي أيضا لا تستطيع أن تتخلى عن أن يكون لها نصيب الأسد من الظهور في كل موقف يسطره الرئيس العليمي في مشهد يُظهِر بن سلمان شريكاً آخر في الحكم ويشبه أن يمثل النائب الثامن بعد النواب السبعة؛ إذ تبرز صورته مع والده في كل مشروع يمني يقوم العليمي بافتتاحه أو بوضع حجر الأساس له وهذا له أبعاد سيئة في ترسيخ مفهوم الحضارة والتنمية لدى المواطن اليمني إذ يجعله اتكالياً غير قادر على البناء والثقة في نهضة وطنه بسواعده القوية.
وهذا يبرز الصورة النمطية التي تعيشها اليمن حالياً مرتمية أطرافها في أيادي النافذين الإقليميين والمستفيدين من بقاء البلاد في وضع الحرب وعدم الاستقرار وامتلاك السيادة، إذ تزف العليمي مدرعات السعودية والإمارات إلى محافظات الشرعية والمناطق التي يسيطر عليها وهو نفسه لا يستطيع تأمين مقر له في العاصمة المؤقتة عدن جراء التدخل الإماراتي عبر مليشياتها وأذرعها، غير أن ما يقوم به يعد خطوة في الاتجاه الصحيح نحو مؤسسية الدولة واستعادة تواجدها التدريجي حتى يلتف من حوله المواطنون والشعب بكافة أطيافه نحو البناء والتنمية والاستقرار.
وفي الطرف المظلم من القصة يصل عراب الإجرام الحوثي السفير المدبر والمخطط والمهندس الإيراني للإمامة وولاية الفقيه إلى صنعاء، لتعبيد الناس لسيدهم بدلاً من عبادتهم رب العالمين، وهذا حال يرثى له، لبلد قوام سكانها أربعين مليون لايجدون حاكماً متفقا عليه يدير شؤونهم ويهتم بمصالحهم ويحفظ ممتلكاتهم، يتخبطون بين السلب والنهب والفساد والفشل.
فمن يتحمل المسؤولية عن كل ما وصلت إليه البلد اليوم؟!