في الثاني من ديسمبر 2017، أسدل الستار على حياة الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، المعروف بلقب "عفاش"، مقتولا على يد الميليشيات الحوثية، في مشهد صادم للكثيرين من أنصاره وخصومه على حد سواء. رغم ما قد يبدو من تضاد في المشاعر حول وفاته، فإن قراءة حياة صالح واستحضار ما فعله بنفسه وبالدولة اليمنية تكشف الكثير من تفاصيل العقل الذي أوقع اليمن في براثن الأزمات.
تولى صالح الحكم في عام 1978، في ظروف سياسية غاية في التعقيد. كان اليمن الشمالي " الجمهورية العربية اليمنية"حينها يعاني من انقلابات متكررة، وصراعات داخلية بين القبائل والنخب السياسية. فضلا عن صراعات مع دولة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
ولقد تمكن صالح، بحنكته السياسية ودهائه القبلي، من البقاء في السلطة لفترة طويلة في بلد كان يُطلق عليه "مقبرة الحكام".
منذ اللحظات الأولى، رسخ صالح سلطته عبر تحالفات معقدة مع القبائل والقوى العسكرية، لكنه اعتمد بشكل كبير على شراء الولاءات وإضعاف مؤسسات الدولة. كان يحرص على أن تكون القوى السياسية والعسكرية دائما في حالة من الانقسام والتنافس، ليظل هو اللاعب الوحيد الذي يمسك بخيوط اللعبة.
فترة حكم صالح شهدت أبرز إنجاز وطني في تاريخ اليمن الحديث: إعلان الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990. كان هذا الحدث مصدر فخر لكل يمني، لكنه سرعان ما تحول إلى كابوس بسبب سياسات صالح.
استغل صالح الوحدة لتوسيع نفوذه، لكن إدارته للمشهد كانت كارثية. بدلا من تعزيز مفهوم الدولة الواحدة، لجأ إلى تعزيز نفوذ القبائل في الجنوب، واستعداء القوى السياسية الجنوبية. انتهت الأمور بحرب صيف 1994 التي عززت مركزية السلطة في يد صالح، لكنها خلفت جرحا عميقا في جسد الوحدة الوطنية.
كانت سياسات صالح خلال ثلاثة عقود تركز على إضعاف مؤسسات الدولة لصالح تعزيز سلطته الشخصية. لم يكن هناك استثمار حقيقي في بناء جيش وطني قوي، بل كانت الولاءات القبلية والشخصية هي الأساس. المؤسسات المدنية تحولت إلى أدوات في يد النظام، وأصبحت الدولة مجرد واجهة لتحركات صالح وتحالفاته.
في 2004، اشتعلت أولى الحروب بين صالح والحوثيين في صعدة. خاض الطرفان ست حروب مريرة، لكن صالح، في لحظة مفصلية من حياته السياسية، اختار التحالف معهم في عام 2014 بعد سقوط نظامه في 2011.
كان هذا التحالف بمثابة مقامرة خطيرة. صالح، الذي سلم الحوثيين مفاتيح الدولة والجيش، اعتقد أنه يمكن أن يستخدمهم لاستعادة سلطته، لكنه وجد نفسه محاصرا بنفس الأدوات التي صنعها. كان الحوثيون أكثر شراسة واستغلالا حتى تحولوا إلى قوة مهيمنة على الأرض.
مع اقتراب نهايته، أدرك صالح خطورة تحالفه مع الحوثيين وحاول التراجع. أطلق في الثاني من ديسمبر 2017 دعوة للانتفاض ضدهم، معلنا انشقاقه عن تحالفه معهم. كانت هذه الخطوة بمثابة استغاثة أخيرة من رجل أدرك أنه فقد السيطرة على اللعبة التي كان يوما سيدها.
لكنه وجد نفسه محاصرا في شارع صخر بصنعاء، في منزله الذي لطالما اعتبره معقل الأمان. الحوثيون، الذين استفادوا من كل ما قدمه لهم، لم يترددوا في تصفيته.
ثماني سنوات مرت على مقتل صالح، وما زال اليمنيون مختلفين حول إرثه. البعض يرى فيه زعيما محنكا حافظ على استقرار اليمن لفترة طويلة، وآخرون يعتبرونه المسؤول الأول عن انهيار الدولة والمجتمع.
لكن ما لا يمكن إنكاره هو أن سياسات صالح أثرت بشكل عميق على مسار اليمن الحديث. تحالفاته، قراراته، وصراعاته جعلت اليمن عرضة لتدخلات خارجية وانقسامات داخلية.
كان صالح يملك فرصة تاريخية ليكون قائدا يحفظ وحدة اليمن ويؤسس لدولة مدنية قوية. لكنه اختار طريق الحكم بالولاءات القبلية والسيطرة الفردية. هذه الخيارات جعلته ضحية لأدواته الخاصة.
وحينما قرر التحالف مع الحوثيين، كان يعلم أنه يلعب بالنار. لكنه لم يكن يتوقع أن ينقلبوا عليه بهذه السرعة والقسوة.
خلال فترة حكمه، كانت الدولة في حالة تآكل مستمر. اعتمد صالح على سياسة "فرق تسد"، وأضعف مؤسسات الدولة لصالح نظام ولاءات معقد. النتيجة كانت دولة هشة غير قادرة على الصمود أمام الأزمات.
وإلى ذلك ساهمت سياسات صالح في تعميق الانقسامات داخل المجتمع اليمني. بدلا من تعزيز الهوية الوطنية، رسخ النزاعات القبلية والمذهبية.
بالتأكيد علي عبدالله صالح كان نموذجا للحاكم الذي يعتقد أن السلطة أبدية. لكنه وجد نفسه محاصرا بأخطائه وخياراته.
قصة صالح هي تحذير لكل من يمسك بزمام السلطة: أن بناء دولة على الولاءات الشخصية والتحالفات المؤقتة هو وصفة للانهيار. واليمن اليوم يدفع ثمن هذه السياسات التي أضعفت الدولة وأدخلت المجتمع في أتون صراعات لا تنتهي.
رحم الله صالح، ولعل اليمن يتعلم من دروس ماضيه ليبني مستقبلا أفضل.