في بداية عام 2011، وفي أوج اندلاع ثورات الربيع العربي، وفي لحظة مفاجئة من التاريخ، اهتزت الأرض السورية تحت أقدام أولئك الذين قرروا أن يصرخوا في وجه الظلم: “نريد التغيير”. كانت تلك الأصوات الصغيرة التي انطلقت في مدينة درعا، مدفوعةً بحلم بسيط لكنه عظيم: الحرية. لم يكن يعلم أولئك الذين بدأوا هذا الحلم أن ما سيبدأ كحركة احتجاجية ضد الفساد والظلم سيُفضي إلى ملحمة من الصمود والعزيمة ستستمر لسنوات. لقد تحدوا الجلادين، وحاربوا العنف بالقوة الداخلية التي لا تُقهر. ورغم القمع الوحشي والتدمير الشامل، بقيت شعلة الثورة مشتعلة، تشق طريقها عبر الظلمات وتضيء كل زاوية من زوايا الأرض السورية. إنها ليست مجرد قصة شعبٍ يطالب بحقوقه، بل هي قصة صراع من أجل الكرامة، من أجل إنسانية لا يمكن قهرها، ومن أجل وطن لا يزال ينبض في قلب كل سوري.
بدأت الثورة السورية بصوت خافت في درعا، مدينة صغيرة في جنوب البلاد، لكن ذلك الصوت كان يحمل أصداءً ستغمر الأرض السورية كلها. كانت المطالب بسيطة: حرية، عدالة، كرامة. لكن رد النظام كان عنيفًا، حيث استُخدم الرصاص بدلًا من الحوار. مع أول قطرة دم، تحولت هذه الشرارة إلى حريق لا يمكن إخماده. كانت لحظة فارقة، لم يتوقع أحد أن تكون بداية لحركة ستغير مجرى التاريخ.
توسعت الثورة بسرعة كبيرة، وسرعان ما انتشرت في كل المدن السورية. كانت المظاهرات التي خرجت مليئة بالعزم والإصرار، رافعين شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”. كانت الجماهير تتحدى آلة القمع، والرصاص ينهمر عليهم كالمطر، لكنهم لم يركعوا. كما قال الشاعر أحمد شوقي: “وللحرية الحمراء باب، بكل يد مضرجة يدق”. في كل يوم جديد، كانت قوة الإرادة تتجلى في الشعب السوري، ويظهر الصمود كأكبر سلاح لديهم.
رغم القمع العنيف، سادت روح الوحدة بين مختلف فئات الشعب. من الأطفال إلى كبار السن، ومن الرجال إلى النساء، كان الجميع في خندق واحد. ووسط سيل الدماء، كان السوريون يبنون جسورًا من الأمل والكرامة، مثلما يقول الشاعر محمود درويش: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”. لم يتراجعوا أمام التهديدات، بل ازدادوا إصرارًا، وواصلوا دربهم رغم التضحيات.
ثم جاء الهجوم الأكبر: التهجير القسري. ملايين السوريين أجبروا على مغادرة بيوتهم، ليواجهوا رحلة معاناة أخرى عبر الحدود والأراضي. لكن الرحلة لم تكن سوى بداية جديدة لنضال آخر. كل قافلة من اللاجئين كانت تحكي حكاية شعب لم ينكسر، بل وجد نفسه في أرضٍ جديدة يستكمل فيها حلمه. كما قال الشاعر أبو القاسم الشابي: “إذا الشعب يومًا أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر”. كان القدر لا يزال في يد الشعب السوري، رغم كل الرياح العاتية التي كانت تعصف به.
الشتاء كان قاسيًا، والجوع كان مهددًا، لكن السوريين لم يُهزموا. على الرغم من العوائق، أظهر الشعب السوري صمودًا قل نظيره، يتنقل من مأساة إلى أخرى، لكن قلبه لا يزال ينبض بالأمل. كانت الآلام التي مر بها الشعب السوري تطحنهم، لكنهم كانوا يعرفون أن لا شيء يمكن أن يقهر روحهم. “إن مع العسر يسرا”، كما قال الله في القرآن الكريم، فقد كانت كل ضربة، وكل قصف، وكل نزوح تزيدهم إصرارًا على النصر.
اليوم، بعد سنوات من المعاناة والتحدي، لا يمكن القول إن النصر تحقق بالمعنى التقليدي. فالثورة السورية لم تكن مجرد صراع على السلطة، بل كانت معركة وجودية لشعبٍ اختار أن يظل متمسكًا بحلمه مهما كانت الصعاب. “الحرية لا تُعطى، بل تُنتزع”، كما قال جمال عبد الناصر، وهذا ما فعله الشعب السوري. انتزعوا حقهم في الحياة والكرامة، رغم التحديات التي مروا بها.
اليوم، عندما نتحدث عن الثورة السورية، فإننا لا نتحدث عن مجرد حركة احتجاجية، بل عن ملحمة من الصبر والإيمان بالحرية. هو نضال لا يتوقف، يكتب نفسه عبر كل لحظة تمر. النظام قد يزول، لكن السوريين سيظلون أبطالًا في تاريخ الحرية. لأن “الحرية لا تُعطى، بل تُنتزع”، كما قال الزعيم جمال عبد الناصر، وهذا ما فعله السوريون: انتزعوا حريتهم، وصبروا على معاناتهم، ولم يساوموا على كرامتهم. وكلما حاول العالم أن ينساهم، بقيت تلك الشعلة تضيء في داخلهم، لأن “الأمل لا يموت، بل يُنبت من قلب اليأس”.