أمين الصفاء

أمين الصفاء

كاتب وإعلامي يمني

كل الكتابات
للطفولة مواقف وحكايات لا تُنسى
الأحد, 22 يونيو, 2025 - 08:42 مساءً

للطفولة نكهة خاصة لا تشبه أي مرحلة أخرى من العمر. مواقفها البسيطة تظل عالقة في الذاكرة رغم تعاقب السنين ، وذكرياتها قادرة على إحياء مشاعر دفء وفرح مهما تغيرت الظروف. من بين تلك الذكريات، يظل ذلك اليوم في سوق الجمعة حاضرا بكل تفاصيله الصغيرة.
 
في إحدى فترات الطفولة ، ربما في نهاية المرحلة الابتدائية أو بداية الإعدادية ، كنا أنا والأخ مجاهد علي نقف أمام دكان محطة علي صبر في سوق الجمعة. كان الوقت بعد الظهر أو العصر ، والسوق هادئا نوعا ما ، بينما كان الدكان يعج بالشباب كالعادة، خصوصا أيام المباريات.
 
توقفت فجأة سيارة من تلك التي كانت تنقل الركاب إلى صنعاء، ربما سيارة عبد الرزاق ، أو السيوه ، ونزل منها رجل مألوف بالنسبة لنا. كان فيصل أحمد ، وقد وصل لتوه من مقر عمله. في ذلك الوقت كنا نسمع أنه يعمل في مأرب ضمن قوات الدفاع الجوي، وكان اسم المكان الذي يعمل فيه، (صحن الجن) أو (صافر) ، يبدو لنا كأطفال كأنه يقع خارج حدود الأرض ، في عالم آخر لا نعرفه.
 
كان فيصل يرتدي معوزا وقميصا بسيطا، ويبدو عليه أثر السفر. في يديه أكياس، وعلى وجهه ملامح التعب والإرهاق، وكان مخزن (القات). اقترب منا وسلم، ثم سألنا:
– ايش معاكم هنا يا شباب؟
أجبناه ببساطة:
– ولا حاجة، جالسين نلعب.
قال لنا بلطف وحرص:
– لا تلعبوا هنا في السوق وبين الناس، وجالسين قدام الدكان ما يصلح.
قلنا له إننا سنغادر بعد قليل. ابتسم، ثم أخرج من جيبه فلوس مش عارف كم ريال وقتها وقال:
– خذوا لكم هذه.
 
لا أذكر كم كان المبلغ، لكنني أذكر تماما ماذا اشترينا به. اشترينا كندا راي، وبسكويت زبدة، وماري، وأشياء أخرى كانت حينها تمثل قمة الفرح. كانت لحظة لا تُنسى، لحظة امتلأت فيها قلوبنا بالبهجة ، وشعرنا كما لو أن العالم صار ملكا لنا.
 
في تلك المرحلة، أن تملك ريالا أو ريالين وتروح بهما إلى الدكان لتشتري جعالة، كان ذلك إنجازا كبيرا في حياة طفل. صحيح أننا كنا نحصل أحيانا على مبالغ صغيرة أيام المدرسة، لكنها لم تكن دائمة ولا مضمونة. ولهذا ، كانت لحظة حصولك على القليل من الريالات لتشتري بسكويت أو عصير كافية لتجعل يومك كله سعيدا ومختلفا.
 
كانت محطة علي صبر أكثر من مجرد دكان. كانت ملتقى للشباب، وخصوصا عشاق كرة القدم. علي صبر نفسه كان من أبرز المهتمين بالرياضة، وكنا نراه موسوعة متحركة في ما يخص أسماء اللاعبين والفرق والمباريات المحلية والعربية والدولية، كان يحفظ كل أسماء اللاعبين والأندية والفرق والمنتخبات.
 
لم يكن وحده في ذلك، فقد كان هناك أيضا صادق حسان رحمه الله، ومطهر، وحميد، وفؤاد الشيبة، وعلي عبده القلعي، وغيرهم من شباب القلعة، وشباب من قرى ومناطق أخرى لا أتذكر أسمائهم.
 
وكان الدكان يعج بالحياة والنقاش والحماس، خصوصا عندما تقترب مواعيد المباريات، أو تُذاع نتائج مهمة. تلك الأجواء صنعت جزءا كبيرا من ذاكرتنا الجماعية، وخلقت نوعا من التواصل والحميمية بين أبناء المنطقة.
 
عرفنا لاحقا أن علي صبر لم يكن مالك المحطة ، بل كان يديرها لصالح مجموعة من الشركاء ، الذين وثقوا به لما عُرف عنه من نزاهة وكفاءة. وبالفعل ، استطاع أن ينسج علاقات واسعة مع مختلف شرائح المجتمع في المنطقة ، من الكبار والصغار، من طلاب المدارس إلى كبار السن.
 
 وكان من أكثر من يشجع الطلاب على الاجتهاد والمذاكرة ، ويهتم كثيرا إلى درجة المبالغة بتربية أولاده عارف وفارس ، وقد علمت مؤخرا أن فارس أصبح مهندسا كبيرا وناجحا في الصندوق الاجتماعي للتنمية يشار إليه بالبنان.
 
الحياة في تلك القرى كانت بسيطة ومتواضعة ، تفتقر إلى كثير من الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والطرقات والمستشفيات. ولهذا ، كان الناس يعتمدون على مادة القاز للإنارة  ، ويأتون إلى محطة علي صبر لشرائها من أجل (الفوانيس والنوارات).
 
كانت المحطة آنذاك ملتقى فعليا ، وربما المكان الوحيد الذي تتوفر فيه الكهرباء ، وهو ما كان يبدو لنا كأطفال شيئا مبهرا ومختلفا عن باقي الأمكنة.
 
في نظرنا، كانت المحطة عالم حياة مصغر، دكان صغير فيه ضوء وأصوات ومباريات وأحاديث وأمل بأن تحصل على شيء بسيط يُسعدك. هكذا عشنا تلك اللحظات ، وهكذا بقيت معنا إلى اليوم ، ذكرى لا تُنسى من زمن بسيط لكنه مليء بالمحبة والبهجة والفرح النقي.
 

التعليقات