يبدو أن بعض "المخيلة السياسية" في اليمن تعاني من انقطاع في الكهرباء، أو على الأقل في شريط الذاكرة الوطني. فبينما لا يزال الدم ساخنا في ذاكرة شباب الثورة اليمنية، ومقابر الشهداء تتنفس الحكايات، تطل علينا إشاعة مضحكة... لا، بل "تراجيكوميدية"، مفادها أن أحمد علي عبد الله صالح، نجل الرئيس الأسبق، قد يعود ليكون رئيسا للجمهورية اليمنية!
الحق أن هذا النوع من الأخبار لا يمكن تصنيفه في خانة السياسة، بل في قسم "الفنتازيا السياسية"، وربما يصلح سيناريو لمسلسل رمضاني عنوانه: "حين عاد الحرس الإمامي في زي جمهوري". فأن يعود أحمد علي صالح ليكون "منقذ اليمن"، يشبه تماما أن يعود المتهم ليكون قاضيا، أو أن يُستدعى الحرس الجمهوري لترميم الجمهورية التي ساهم في تقويضها.
قيل قديما: "من شابه أباه فما ظلم"، لكن في الحالة اليمنية، الشبه ليس فقط في الدم، بل في البنية السياسية والفكر الإمامي الجديد بلباس جمهوري.
فمن كان قائدا روحيا للحرس الجمهوري الذي تربى على الولاء للعائلة، لا يمكنه - ببساطة - أن يقنع اليمنيين اليوم أنه يمثل مستقبلًا جمهوريا حداثيا.
أليس الحرس الجمهوري هو من تنفس من رئة العائلة لعقود؟ أليس هو من انقسم "روحياً" و"تنظيمياً" عند سقوط الدولة؟ فمن يقود ذاكرة الناس بالحنين عليه أن يراجع خريطة الدم، فهناك أسماء كثيرة سقطت في الشوارع، في الساحات، في خنادق المقاومة، لم يسأل عنها أحد من عائلة "الزعيم"، ولم تُذرف دمعة واحدة من قبل الجنرال الصامت.
ثم إن فكرة أن يقوم بعض "الشرفاء" في الحرس الجمهوري (الذي لم يعد جمهوريا بالمناسبة)، بانتفاضة مفاجئة ضد المليشيات الحوثية الكهنوتية ذات الولاية، ليعيدوا الجنرال إلى رأس الدولة، تشبه أفلام هوليود أكثر مما تشبه الواقع اليمني. لا انتفاضات تُدار بروح رومانسية، ولا كرامة تأتي من رحم المليشيات.
والحق يقال إن الثورة الشبابية، بكل فوضاها وعظَمتها، لم تقم ضد الأسعار أو الكهرباء فقط، بل ضد مبدأ توريث الحكم في بلد اسمه "الجمهورية اليمنية". كانت تلك لحظة وعي نادرة، حين فهم اليمنيون أن الحكم ليس سلالة، وأن الجيوش ليست حكرا على الأبناء، وأن الدولة ليست مزرعة.
فهل بعد أكثر من عقد من التضحيات، نعود إلى النقطة الأولى؟ هل نعيد تدوير الوجوه تحت لافتة "الوطن أولًا"، بينما نعرف أن ما يدور هو الشريط القديم نفسه، فقط بجودة 4K هذه المرة؟
عموما أن تظل صامتا لأكثر من عشر سنوات في لحظة انهيار وطن، ثم تظهر فجأة لترتب ملابسك السياسية وتترشح للرئاسة، فهذا ليس هدوء حكماء، بل صمت الحياد في معركة وجودية.
صحيح بينما كانت المليشيات الحوثية تتوغل في مفاصل الدولة، كان عبد ربه منصور هادي (الرئيس الذي قال إن "عمران عادت إلى حضن الدولة") يعين زكريا الشامي الحوثي نائبا لرئيس هيئة الأركان. والجنرال أحمد... صامت.
لم يصدر بيان إدانة، لم يُسمع له موقف، لم تُر منه كلمة تضامن مع الجمهورية التي تم اجتياحها. إذا على أي أساس يُراد له أن يكون قائدا للمرحلة القادمة؟ على أساس الميراث؟ أم على قاعدة: "الساكت عن الحق رئيس محتمل"؟
نعم، كلنا ضد المليشيات الحوثية الكهنوتية ذات الولاية، ولكن لا يعني ذلك أن نقبل بأي مشروع معاد للحوثي فقط لأنه ليس حوثيا. بل لم يعد كافيا أن يكون السياسي "ضد الحوثي" ليرتقي إلى مصاف رجال الدولة.
فالمواقف لا تكفي، بل يجب أن تكون مغروسة في مشروع وطني حقيقي، لا في ورقة رابحة لإعادة إنتاج منظومة الحكم السابقة.
وأحمد علي، مع كامل التقدير لشخصه الدمث كما يُقال، لم يقدم إلى اللحظة برنامجا سياسيا، ولا رؤية جمهورية، ولا حتى اعتذارا تاريخيا عن مرحلة سابقة.
والآن من سيحكم اليمن؟
السؤال الآن ليس من سيواجه الحوثيين، بل: من سيحكم اليمن بعد الحوثيين؟ هل سنستبدل ولاية الفقيه بولاية العائلة؟ هل سننتقل من مشروع إمامي سلالي إلى مشروع جمهوري وراثي؟ إن كانت الإجابة "نعم"... فلنُطفئ الأنوار ونغلق الدفاتر، فقد خسرنا المعركة.
لكننا لا نزال نؤمن أن اليمن لم تنفد من رجالها، ولا من نسائها. هناك في الخنادق، في القرى، في الجامعات، من يفكر ويخطط ويحلم ويضحي. هؤلاء هم المستقبل، لا الجنرالات الذين يسكتون حين يسقط الوطن، ثم يتكلمون حين تحين "الفرصة".
على إن عودة أحمد علي عبد الله صالح إلى الواجهة السياسية ليست مشروعا وطنيا، بل مزحة ثقيلة الظل في لحظة جدية للغاية. وإذا كانت السياسة فن الممكن، فإن عودة الوريث هي فن المستحيل... أو فن إعادة الاستبداد بلغة جديدة.
ولذلك نقولها بكل وضوح: لا للحوثية... ولا للحنين إلى عهد التوريث. اليمن يستحق أكثر من ذلك.
لكن أحمد علي عبد الله صالح أثبت قدرة نادرة على التزام النظام والانضباط العسكري: في 2013 سلم قيادة الحرس الجمهوري دون تمرد، ضمانا للاستقرار الدستوري وفق أوامر الشرعية. ذلك الانضباط الجاد والتفاني في خدمة الوطن يعكسان رجلا أمام التحديات وملتزما بمبدأ دولة المؤسسات.
بمعنى أدق فإن أحمد علي عبدالله صالح محسوب على خبرة عسكرية ودبلوماسية، ورفع العقوبات الأممية عنه في أغسطس 2024 بعد جهود سعودية وإماراتية، فقد أصبح قادرا على الحركة الحرة واستخدام أصوله، مما يعزز دوره السياسي المحتمل.
فهل ننتظر منه إطلاق رؤية وطنية أو تحالفات بناءة تُترجم هذا الانفراج إلى مشروع يسهم في مواجهة الحوثي وإعادة بناء مؤسسات الدولة؟
نأمل ذلك
*من صفحة الكاتب على فيسبوك