المجلس الرئاسي هل ما زال هناك أفق لإصلاح المسار؟
الاربعاء, 10 سبتمبر, 2025 - 04:29 مساءً

في اليمن، لا تكفي الكلمات وحدها لتفسير حجم المأزق الذي وصلت إليه الدولة. فمنذ أن انهارت مؤسساتها تحت وطأة الانقلاب الحوثي وشركائه والحرب والانقسامات، ومع وطأة التدخل الخارجي وأجندته المغايرة لمصالح اليمنيين، لم يعد هناك كيان جامع قادر على الإمساك بزمام الأمور. المجلس الرئاسي الذي وُلد من الرحم السعودي الإماراتي ليكون بديلاً عن الرئيس هادي من خارج أي آليات وطنية، وتشكل ليكون حلاً انتقالياً لكنه بات أشبه بمرآة تعكس حالة التشظي أكثر مما تمثل مظلة توحيدية. ثمانية أعضاء يجلسون حول طاولة واحدة، كل واحد منهم يمثل قوة أو جهة، ولكن لا أحد يملك تفويضاً دستورياً متيناً يحدد بدقة صلاحياته وأفق مهمته. القانون غائب، والشرعية الدستورية معلقة على إعلان استثنائي لا يكفي لترسيخ مؤسسات أو بناء ثقة شعبية.
 
هذا الواقع، الذي يتسم بالهشاشة والارتباك، يتعقد أكثر حين نلقي نظرة على الساحة العسكرية والسياسية معاً. فبدلاً من وجود جيش وطني واحد، نجد تعدداً في الولاءات وازدواجية في القيادات، وألوية وقوات تتبع مراكز قوى متباينة، فيما تتحكم المليشيا والفصائل المسلحة في العاصمة المؤقتة عدن والموارد والسلاح والقرار. لم يعد الأمر مجرد فوضى تنظيمية، بل أشبه بوجود دول داخل الدولة؛ فكل طرف يفرض سلطته على جزء من الأرض أو مورد من الموارد. وتضاعف خطورة المشهد الهيمنة السعودية والإماراتية على القرار السيادي، واستمرار حالة التخندق والعداء بين المكونات، بما يجعل المجلس الرئاسي عاجزاً عن فرض سلطته أو امتلاك السيطرة الكاملة على الأرض، فتظل قراراته حبراً على ورق في كثير من الأحيان.
 
وإذا كانت الانقسامات الداخلية تشل المجلس وتضعفه، فإن الخارج يزيد الأمر صعوبة ويثقل كاهل الدولة بمزيد من القيود. فالتدخلات الإقليمية والدولية لم تترك للمجلس مساحة كافية للاستقلالية في القرار، إذ تسعى السعودية والإمارات ومعهما قوى دولية أخرى إلى تكريس نفوذها عبر التحكم بالملفات العسكرية والاقتصادية والسياسية. وإلى جانب ذلك، فإن غياب المجلس وأعضائه عن اليمن معظم الأوقات جعل حضوره شكلياً، فلا خارطة عمل واضحة لديه ولا آليات موحدة للرقابة أو الإدارة، وهو ما يفاقم من عجزه في إدارة المرحلة الانتقالية بفعالية. وبينما يغيب صوت الدولة الوطنية الجامعة، يجد المواطن نفسه أسيراً لسياسات متضاربة لا تخدم إلا مصالح اللاعبين الخارجيين. وفي ظل هذا المشهد، تتفاقم الأزمة الاقتصادية؛ العملة تنهار بوتيرة متسارعة، والفقر يتسع ليشمل أغلب الأسر، والبطالة تضرب بقوة جيل الشباب، فيما تتلاشى الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه وصحة وتعليم لتصبح مجرد ذكرى. هذا الانهيار المركب لم يترك فراغاً في الحوكمة فحسب، بل عمّق فجوة الثقة بين المجتمع والدولة، ورسخ شعوراً عاماً بأن القرار الوطني مرتهن لإرادة الخارج أكثر من ارتباطه بمصلحة الداخل.
 
لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ الحديث التي يواجه فيها بلد مأزوماً معضلة مماثلة. ففي جنوب أفريقيا، حين خرجت البلاد من ربقة نظام الفصل العنصري، لجأوا إلى دستور انتقالي (1993–1996) منحهم إطاراً قانونياً مؤقتاً ينظم التوازن بين القوى ويمهد لمرحلة جديدة. وفي تونس، بعد ثورة 2011، لعبت مشاركة المجتمع المدني دوراً حاسماً في بناء توافقات حالت دون الانزلاق إلى الفوضى. على النقيض، أظهرت ليبيا بعد 2011 كيف يمكن لغياب إطار دستوري متماسك أن يجر البلاد إلى انقسام مؤسساتي وفوضى مسلحة. أما السودان، فقد قدّم مثالاً مؤلماً على خطورة غياب التوازن بين المدنيين والعسكريين؛ إذ أدى تغوّل القوى المسلحة وغياب لوائح ملزمة إلى انتكاسة قاسية.
 
اليمن يقف اليوم عند تقاطع طرق شبيه بما مرت به تلك البلدان. لكن الفرق أن اليمن محاط بخصوصية جغرافية وتاريخية تجعل مسألة الإصلاح أكثر إلحاحاً. فالمجلس الرئاسي، كي يكون قادراً على قيادة مرحلة انتقالية، يحتاج قبل كل شيء إلى إطار دستوري مؤقت يحدد صلاحياته وحدود زمنه. يحتاج إلى أمانة عامة محترفة ولوائح داخلية ملزمة تضمن انتظام اجتماعاته واتخاذ القرارات بطريقة شفافة. ويحتاج أيضاً إلى قرار شجاع بتوحيد المؤسسة العسكرية والأمنية تحت قيادة مدنية، لأن أي إصلاح سياسي يبقى بلا معنى ما لم تترافق معه إصلاحات أمنية حقيقية.
 
أما من الناحية الاقتصادية، فالمشكلة الجوهرية تكمن في غياب نظام مالي مركزي وشفاف، ما أدى إلى تفشي الفساد وتعدد مراكز التحصيل وإنفاق الإيرادات بعيداً عن أي رقابة. هذا الوضع جعل الداعمين الخارجيين يترددون في تقديم دعم مباشر، لأنهم لا يثقون بكيان لا يقدم حساباً واضحاً للإيرادات والنفقات. المعالجة تبدأ من توحيد الخزينة العامة وإلزام جميع المؤسسات بتحويل إيراداتها إلى حساب مركزي واحد، مع نشر موازنات تفصيلية بشكل دوري لإعادة بناء الثقة داخلياً وخارجياً. وفي هذا السياق يصبح من الضروري إلزام الرياض وأبو ظبي بالإيفاء بتعهداتهما المالية ودعم برامج التعافي الاقتصادي، بدل الاكتفاء بوعود مؤجلة أو تدخلات تعمّق الأزمة. كما يتطلب الأمر وقف حالة الهدر ودعم المليشيات والمكونات الخارجة عن إطار الدولة، وتوجيه الموارد إلى مؤسسات شرعية خاضعة للرقابة. وبالتوازي، فإن إطلاق عملية لامركزية منظمة يمنح المحافظات صلاحيات مباشرة في تقديم الخدمات الأساسية، لكن ضمن عقود أداء ملزمة تربط بين المركز والمستوى المحلي، بحيث يُقاس الأداء بمؤشرات واضحة ويُحاسب المقصرون، ما يضمن تحويل الموارد إلى نتائج ملموسة يشعر بها المواطن في حياته اليومية.
 
ولأن اليمن ليس جزيرة معزولة، فإن العلاقة مع الداعمين الخارجيين تحولت إلى واحدة من أعقد إشكالات المرحلة الراهنة. فالمساعدات كثيراً ما جرى توظيفها لخدمة أجندات سياسية وأمنية، ما جعلها أداة ضغط أكثر من كونها وسيلة دعم حقيقية. إن المشكلة لا تكمن فقط في حجم التدخل، بل في طبيعته التي تقوم على التبعية لا الشراكة، حيث تفرض بعض القوى الإقليمية، وفي مقدمتها السعودية والإمارات، شروطها على القرار الوطني وتتعامل مع المجلس وكأنه أداة تنفيذية لا شريكاً سيادياً. إن المعالجة تبدأ من إعادة صياغة هذه العلاقة على أسس واضحة قائمة على الشفافية والمصالح المشتركة، بحيث تحدد نوعية الدعم وكيفية استخدامه وفق أولويات وطنية، وتدار عبر آليات رقابة مشتركة تحول دون انزلاقه إلى مسارات تخدم طرفاً على حساب الدولة. أما مسار السلام، فلن يتحقق ببيانات عامة أو مشاورات شكلية، بل يتطلب استراتيجية تفاوضية متدرجة، تستند إلى خطوط حمراء واضحة وضمانات عملية، وتستوعب أصوات المجتمع المدني والنساء والشباب الذين طالما جرى تهميشهم.
 
هذه محاولة لطرح بعض النقاط على الحروف، تسعى لتشخيص الواقع كما هو وتقديم ملامح طريق عملي يمكن السير فيه. فالمشهد اليوم لا يقتصر على الصراع المسلح والانقسامات، بل يتجسد أيضاً في تآكل الحالة الحزبية وعجز الأحزاب عن لعب دور وطني جامع، وضعف أداء ما تبقى من المؤسسات التشريعية التي تحولت إلى كيانات شبه معطلة. يضاف إلى ذلك هشاشة الجهاز القضائي الذي فقد استقلاليته، وغياب آليات فاعلة للرقابة والمحاسبة والشفافية والحوكمة. كل هذه العوامل عمّقت أزمة الدولة، ودفعت بها نحو فراغ مؤسسي خطير. وأخطر ما يواجه البلاد يظل في خطر الانفصال واستمرار دوامة الصراع، وسيطرة مليشيا الحوثي على العاصمة المؤقتة عدن وأجهزة الدولة، إلى جانب نفوذ الفصائل المسلحة على الموارد والسلاح والقرار، بما يجعل الدولة أقرب إلى سلطات متناحرة. ويزداد الوضع تعقيداً بفعل الدور الخارجي، إذ تتحمل القوى الإقليمية والدولية – وفي مقدمتها السعودية والإمارات – قسطاً كبيراً من المسؤولية عن تعميق الانقسامات وتعطيل بناء مؤسسات سيادية موحدة من خلال تدخلاتها السياسية والعسكرية.
 
إن استمرار الوضع الراهن يعني مزيداً من الانهيار والضياع، أما التحرك نحو إصلاح حقيقي للمجلس الرئاسي فيمثل الفرصة الأخيرة لإنقاذ ما تبقى من مؤسسات الدولة. فإما أن يتحول المجلس من مجرد إطار هش إلى مؤسسة انتقالية فاعلة قادرة على فرض حضورها داخل اليمن وخارجه، أو أن يترك البلاد نهباً للمليشيات والتدخلات الخارجية. هذا هو جوهر التحدي، وهذه هي مسؤولية اللحظة التي لا تحتمل المزيد من التسويف.

*مقال خاص بالموقع بوست.

التعليقات