في نهار قائظ، ضاق «تشي جيفارا» من رفاهية الجلوس في مكتب مكيف بوزارة الصناعة، وغادر هافانا بعد أن ترك رسالة عاتبة لفيدل كاسترو وذهب إلى الكونغو في إفريقيا، ثم رجع إلى بوليفيا في أمريكا الجنوبية. تشي المهجوس بتحرير الإنسان من الاستبداد والاستلاب اعتقد أن مجموعة ثورية صغيرة تبدأ الكفاح المسلح لابد أن تنتشر كنقطة الزيت وتتحول إلى حركة جبارة.
هذه النظرية التي أطلق عليها «البؤرة الثورية» تبناها وأفاض في شرحها الصحفي الفرنسي «ريجيس دوبريه»، الذي خاض مغامرة شاقة أوصلته إلى جيفارا في أدغال بوليفيا، وأجرى معه حديثاً مطولاً نشره في صحيفة باريسية، يعد حدثاً عالمياً صاعقاً في وقت كانت المخابرات الأمريكية والسلطات البوليفية تجهلان مكان الثوري الحالم. عندما تخطى الشباب إلى الكهولة صار «ريجيس دوبريه» أقل يسارية، واختاره الرئيس «فرانسوا ميتران» مستشاراً صحفياً له، لكن مساعد الرئيس كان يأخذ شهرته من حواره مع جيفارا ومن كتابه المعنون «ثورة في الثورة».
إن كل ثورة حقيقية لابد أن تقود إلى ثورة تتصل بها على طريق التفتح الإنساني.
الانقلاب كذلك قد يمثل عودة متواصلة إلى الخلف وإلى التخلف، خصوصاً عندما يختار طريق الدم والدمار.
مثل هذا حدث في صنعاء الخميس الماضي في خطوة تفسيرها الوحيد رفض التسوية والإصرار على الحرب. الانقلاب الأول بدأ من لحظة التوقيع على المبادرة الخليجية، إذ شق الحوثيون طريقهم إلى دماج وعمران وصنعاء ثم مضوا كالجائحة المرعبة.
لسوف يعرف في التاريخ أنه الانقلاب الأطول والأغرب والأكبر تكلفة، باستثناء ضحايا ما بعد الانقلاب على الرئيس التشيلي «سلفادور الليندي». وفي تصور أصحابه أنهم مارسوا ذكاءً بهذه الممارسة الطويلة والغريبة، إن بإخفاء العلاقة بين طرفيه أو بمحاولة الاستيلاء على مؤسسات الحكم تحت شرعية الرئيس هادي، قبل أن يضطروا إلى احتجازه ثم ملاحقته.
ومع تسلسل الحوادث منذ دخولهم صنعاء حتى 28 يوليو/تموز تأكد أن الانقلاب أقل ذكاءً مما اعتقد صناعه، لأن الأمور لن تبلغ خواتيمها بمجرد تشكيل مجلس سياسي، وإنما هي تتعقد بأكثر مما كانت.
هذا التصعيد في مجمله يهدف إلى أحد أمرين:
إما أن يأخذ التفاوض مسار المساومة بين المجلس السياسي والرئيس هادي للتخلي عنهما واستبدالهما بمجلس مشترك يمارس سلطاته تحت سطوة السلاح، وأما تتعذر المساومة وتمضي القوى الدولية، وتشجع معها آخرين، للاعتراف بشرعية حكومة المجلس السياسي، وهذه تعقيدات سوف تغرق اليمن والمنطقة في مزيد من الفوضى والتمزق.
الآن تشير صورة 28 يوليو/تموز إلى غلبة نزعة تسلط منطقة صغيرة - دون تعميم على كل سكانها -على اليمن الواسع، وذلك هو الأمر المستحيل بعد محاولات الإصلاح القانوني وبعد كل الدماء التي سالت والدمار الذي حصل. إن أي اعتراف بمجلس 28 يوليو/تموز سيقود إلى حكومة في صنعاء وثانية في عدن، وسوف تنفصل عن الجمهورية العربية اليمنية السابقة محافظات هي الأوسع مساحة والأكثر سكاناً والأوفر ثروة. من الناحية الثانية فإن شهر العسل بين صالح والحوثي لن يدوم طويلاً، فالحرب مرجحة بل ومؤكدة بينهما على مساحة ثلاث محافظات ونصفي محافظتين يمكن أن تبقى لهما.
مجمل القول إن تعقد المشاكل وانتشار الفوضى في منطقة حساسة ومهمة للسلام الدولي وللاستقرار الاقتصادي والمالي في العالم، يضع المجتمع الدولي أمام مسؤولية الحفاظ على مصالحه قبل واجب احترام ضميره.
نقلا عن الخليج الاماراتية