يستدعي النقيض نقيضه، كما تستدعي الهزائم إعادة تدوير الأدوار ولو في أحضان من كان خائن بنظرك، ويتحول عدو الأمس إلى صديق مؤقت لليوم، او للحظة فارقة في تاريخ صراع، وأحداث تعتمد على توازنات، واستراتيجيات تحكمها مصالح، وأحقاد، وتناقضات، ومفارقات تثير فيك الدهشة من قدرة الأحداث على تجاوز ما كان لتكوين نقيضه.
ربما هي سنة التدافع، وربما فلسفة الشعور بالهزيمة، واعتراف الذات بعجزها، وقدرة الآخر على ذلك، تدير بعض القوى استراتيجياتها كرد فعل للأخر، فتكون الخصومات، والصداقات، والتحالفات نتيجة اللحظة بما يتوافق مع المصالح الآنية، ومقتضيات المنعطف، فتصير التحالفات ضرورة، وتعبيرا عن سخرية الأقدار الحزينة والمرة بالنسبة للعاجزين عن قراءة المشهد قبل الوصول إلى سخرية الاحداث من قراءتها لها.
وعادة ما تكون النهايات في هذه الحالات مفرغه المعاني، وباهته حين تكون بعض التفاصيل مؤلمة، ففي ذكرى الوحدة، والتئام الجرح، وعناق الأخوة نظر الجميع لـ 22 مايو 1990م حينها بأنه تعزيز للوحدة العربية، وخطوة متقدمة، وكانت الإنجازات عظيمة، لعل أعظمها هو طابعها السلمي والديمقراطي، واطلاق للحريات العامة، والديمقراطية، وترتب على ذلك إعلان الأحزاب السرية عن نفسها، واعلان تأسيس أحزاب جديدة، وصدر قانون يكفل الحق في إصدار الصحف، ودمج النقابات.
أصبحنا وقتها أكثر استبشارا، فنحن جيل شب على ثقافة أن الحدود بين الدول العربية ماهي سوى "ندوب" من جروح قديمة، أحدثها الأخر فينا، لإعاقتنا عن النمو ألطبيعي، نحن جيل البشارة، والفرحة بالتوحد، فكيف للوحدة أن تستدعي نقيضها.
نحن من شاهدنا الحقيقة الباهتة الأسمنتية لسور برلين تنهار إلى غير رجعه، ونحن بعد 33 عاما لايزال جدار الانفصال قائما فينا لم تسطع الإحداث أن تنسينا إياه، ذهبت القيادة السياسية نحو الوحدة، وسط استياء اقليمي من دول الجوار كون الوحدة كفيلة بخلق كيان قوي في خاصرتهم الجنوبية، لذا عارضوها، وإن كان بشكل صامت، بل وبشكل علني في حرب 1994م، حيث كان موقفهم واضحا بالدعم الخفي للانفصال، وإعلان دولة الجنوب، وصارت الوحدة المعمدة بالدم هي المسؤولة عن إلغاء الوحدة السلمية الديمقراطية، وهي المسؤولة عن تدمير الكيان اليمني، حيث حشر الجميع في زاوية إما الحرب وإما الانفصال، فكانت الحرب وانتصرت الوحدة.
لكن الحرب نسفت ألنسيج الاجتماعي، وأحدثت شرخا، وأعادت للأذهان فكرة دولتين بعد أربعة أعوام من وحدة هلل لها الجميع، بينما ينظر الوطنيين والطيبين للوحدة اليمنية بآنها ألحدث الإيجابي الوحيد في تاريخ العرب المعاصر، وبداية تغيير خيطة العرب، والدفع بقطار الوحدة العربية للأمام.
ولكن ما الذي يستدعي الآن الانفصال بشكل أقوى منذ قبل، جميعا ندرك المظلومية التي يرفعها أبناء الجنوب منذ حرب 94م حتى اللحظة، وليست اللحظة مواتيه لمناقشة مصداقيتها من عدمه ولكن اللحظة واضحة، وجلية كيف تستخدم ورقة الجنوب كورقة تستفيد منها الدول الإقليمية التي أعطيت الحق بالتدخل عسكريا لإعادة صياغه عقد اجتماعي، أو بمعنى أدق لإعادة التوازن الذي كاد أن يكون لصالح ايران وذراعها الطولي باليمن، المتمثل بالحوثي، ونتيجة لتدخل التحالف العربي، ومنذ البدايات الأولى كان هناك نهج إمارتي معلن لدعم حراك جنوبي، وأعلن عن تأسيس مجلس انتقالي هدفه إعادة دولة الجنوب إلى ما قبل 1990م.
وتتوالى الأحداث، وتتكاثر المجالس التي تريد احتكار تمثيل الجنوب، بدعم أمريكي واضح لفرملة التقارب السعودي الإيراني، وإعاقة الحوار السعودي الحوثي، ويذهب الجنوبين نحو حضرموت، فهم يدركون أنها الخزان البشري، والمساحة الأوسع، والمدينة التي لها القدرة على أن تلعب دور أوسع في الصراع، وهي الأقدر على تحديد مستقبل الجنوب، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يدرك الجنوبين طموح حضرموت بأن تكون دوله وحدها بما تملكه من مساحة واسعة، ومقومات أخرى، لتكون دوله و ما بين عدن، وحضرموت، والرياض، وأبوظبي يتيه الجنوبي شتات وتشرذم وتزداد العوائق لاتفاق قادم يحقن دم اليمنيين.
لم تعد اللحظة مواتية للم الشمل، والذهاب نحو خيار يمني يمني، بعيدا عن دول اقليمية صارت هي من تحدد معالم خارطة بلدنا، ومن ورائها قوى عالمية هي أيضا لها مشرطها وقلمها الأكثر قدرة على التدخل في رسم خرائط العالم، وما بين نيويورك، ولندن، والرياض، وأبوظبي، وطهران تُسلب خيارتنا، ونصير مجرد دمى تنزف شرفها ووحدتها وأدميتها.
نقطة حسره قبل نهاية سطر النزيف.