ابتلينا برؤساء عسكريين يقدمون تنازلات لعدونا دون أن يطلب، تنازلات لا يتخيلها العدو، ولا يطمح أن يحصل عليها !
اقرأ في مذكرات "هنري كيسنجر" ما كتبه عن الرئيس السادات، يقول إنه كان يدخل عليه باقتراحات ظالمة وهو يظن أن السادات سيركله على مؤخرته (هذا تعبير "كيسنجر" لا تعبيري) بسبب عدم منطقية ما يطلبه، فيفاجأ بأن السادات قد وافق !
"كيسنجر" يريد أن يحصل من السادات على عشرة، فيطلب خمسين، لكي يحصل في النهاية على العشرة التي يريدها أو أكثر قليلا، فيفاجأ بأن السادات قد وافق على الخمسين، لقد وافق دون أخذ ورد، بلا "فصال" كما يقولون.
الوضع اليوم في ظل حكم "سيسي" أسوأ، فبدلا من أن يطالبنا العدو بعشرة، أو حتى بخمسين، يتبرع "سيسي" بإعطاء العدو ألفا، وألفين، يعطيهم ما لا يطمحون إليه ولا يطمعون فيه، يهبهم ما لا يتخيلون أنهم قد يحصلون عليه في يوم من الأيام.
صدق من قال إن "مبارك" المخلوع كان الكنز الاستراتيجي لإسرائيل، ووالله ما كان كنزا لهم إلا لأن عهده قد زرع وفرَّخ أمثال "سيسي" في كل مكان في قواتنا المسلحة، وفي كل مكان في الدولة المصرية.
الصهاينة المصريون يحكمون مصر، وهم صهاينة متعصبون، راديكاليون، لا يقبلون إلا أن ينتصر الصهاينة انتصارا كاملا.
حديث الصهاينة المصريين عن السلام الدافئ كاذب، إنهم يريدونه سلاما (ساخنا)، يريدون ترتيبات إقليمية جديدة، تكون السيادة فيها للصهاينة، وهذا ما يضمن لهم الاستمرار في اغتصاب السلطة في بلادنا.
إنهم يزايدون على الصهاينة أنفسهم، السعوديون لم يطلبوا جزيرتي "تيران" و"صنافير"، لقد قدمتا لهم هدية على طبق من ذهب، والمستفيد الأكبر من الصفقة ... إسرائيل.
الإسرائيليون لم يطلبوا إغراق الأنفاق بين رفح وغزة بماء البحر، إنها فكرة شيطانية من "سيسي" ونظامه، عربون محبة، هو الذي يتقرب إليهم، ويتفنن في خدمتهم، ويجتهد في تحقيق مصالحهم بطريقة لا يستطيع أعتى عتاة الصهاينة أن يتخيلها.
حين قصفت إسرائيل غزة في عام 2014 صمد الفلسطينيون، وكانت خسائر الصهاينة في عملية (العصف المأكول) تدفعهم دفعا للانسحاب وإنهاء المعركة، ولكن ضغوط "سيسي" عليهم أجبرتهم على القصف بشكل أعنف، ولمدة أطول.
"سيسي" هو من يغلق معبر رفح، برغم أن إسرائيل تطالبه بفتحه من وقت لآخر خشية حدوث انفجار في القطاع تدفع إسرائيل ثمنه.
واليوم... "سيسي" هو الذي يعرض على الصهاينة ما لا يحلمون به، يعرض عليهم وطنا بديلا للفلسطينيين على جزء من تراب سيناء (مساحة تعادل أربعة أضعاف مساحة قطاع غزة)، على أن يتم إغلاق جميع ملفات القضية الفلسطينية، فلا قدس، ولا لاجئين، ولا حق عودة، ولا يحزنون.
في سبيل ذلك يجري الإعداد على قدم وساق للتخلص من قدامى العملاء، وزرع العملاء الجدد، إنهم عملاء على مستوى "سيسي" في الخيانة.
يطمح "سيسي" في الحصول على جائزة نوبل للسلام بعد أن يتم هذا المخطط الوهمي المتعلق بدولة فلسطينية منزوعة السلاح في سيناء، سيقتسم نوبل مع "دحلان"، و"نتنياهو" أو أي رئيس وزراء إسرائيلي في السلطة.
إن سعي الدول العربية بعد انقلاب الثالث من يوليو 2013 في مصر لدمج الكيان الصهيوني في المجتمع الدولي يجعلنا نتساءل كيف يمكن لهذه الأنظمة أن تمثلنا؟
لقد أصبحت إسرائيل بسبب الانبطاح العربي رئيساً للجنة القانونية في الأمم المتحدة.
قد لا يعرف القارئ الكريم معنى هذه المنصب أو دوره، والحقيقة أن له مهمات كثيرة، ولكن المهمة الرئيسية لهذا المنصب هي مقاومة الإرهاب الدولي، وحماية المدنيين أثناء الحروب وفق البروتوكول الإضافي لاتفاقية جنيف الرابعة !
كان بإمكان الدول العربية (لو أرادت) أن تمنع هذه الكارثة، ولكن للأسف الشديد لم يتحرك أحد، برغم أن الدول العربية والإسلامية يملكان سويا ما يقرب من ستين صوتا.
إسرائيل التي ضربت عرض الحائط بعشرات القرارات للأمم المتحدة، وأكبر منتهك للإنسانية، وأكبر مرتكب لجرائم الحرب في العصر الحديث ... أصبحت بفضل الدول العربية والإسلامية مسؤولة عن اللجنة التي تراقب انتهاكات الدول أثناء الحروب !
من حسن حظ أمتنا أن هذه الخيانات تحدث في لحظة تملك فيها مصر وفلسطين وغالبية الدول العربية جيلا جديدا لن يقبل بذلك، جيلا يستطيع أن يغير، وهو على استعداد لتصحيح كل هذه الجرائم مهما كانت التبعات، وأيا كانت التكلفة.
في مصر جيل ثورة يناير، سيتحرك هذا الجيل، وسيعيد ترتيب الأوضاع، ولن يقبل بأن تتحول مصر إلى مقاطعة إسرائيلية.
وفي فلسطين جيل جديد، تربى في ظل اتفاقية أوسلو، ولكن أخلاقه وعواطفه قد شكلها أطفال الحجارة، وانتفاضات الأرض السليبة.
مشكلتنا اليوم هي النظام العسكري الذي اغتصب السلطة في مصر، إنه أساس خراب كبير في المنطقة، بل في العالم كله، فبه تميل الكفة لصالح الصهاينة، أو لصالح الأمة، واليوم يقبع على رأس هذا النظام الاستبدادي العسكري رجل وبجواره مجموعة من العسكريين يرون إسرائيل أحب إليهم من أمهاتهم وآبائهم وأبنائهم، ويرون في إرضاء إسرائيل الطريق الوحيد للبقاء في السلطة، ويعلمون أن شعوبهم تتميز شوقا لليوم الذي تلتهمهم فيه التهاما، وهم يظنون أن حصون إسرائيل مانعتهم من غضب الناس.
ستثبت الأيام أن الأمة أقوى من حكامها، وأذكى من أعدائها.
نحن اليوم مطالبون بالوقوف صفا واحد في وجه كل المخططات الصهيونية التي يرعاها "سيسي" وشركاه، وأن نبطل سائر ألاعيب الشيطان التي تهدف إلى إضعاف مصر لعشرات السنين، بحيث تعجز مصر عن المقاومة حتى لو أرادت، وكيف تقاوم أمة لا تملك ماءها، ولا غذاءها، ولا سلاحها، ولا ثرواتها، ولا إرادتها، وفوق كل ذلك يسيطر على جيشها مجموعة من العملاء الذين يتقربون لأعداءها بالخيانة ؟!
لا خلاص لنا إلا باتحاد جميع المصريين من سائر الاتجاهات، والأمل في تحقق ذلك كبير بفضل شباب الأمة.
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين ...
*عن هافينتغون بوست عربي