قبل أسابيع قليلة من عملية «طوفان الأقصى» كان يبدو أن الأمور تتجه إلى التهدئة في ما يتعلق بالملف الإيراني.. طهران كانت قد بدأت مرحلة جديدة من التطبيع مع جيرانها في الخليج، باستئناف العلاقات الدبلوماسية مع كل من المملكة السعودية ودولة الإمارات، بالتزامن مع انخراطها في مباحثات سرية وغير مباشرة مع الولايات المتحدة، بعد فترة من فقدان التواصل بعد انهيار مباحثات فيينا النووية بداية عام 2022.
نجحت المفاوضات الأخيرة، التي جاءت برعاية دول وسيطة ومسهلة، كقطر وسلطنة عمان، في تحقيق تقدم، مع الحفاظ في الوقت ذاته على ماء وجه جميع الأطراف، التي لم تكن ترغب في الظهور بمظهر المبادر إلى التنازل، بالاستفادة من علاقاتهما المشتركة وما يحظيان به من قبول، نجح الوسطاء في تحقيق الهدف الأمريكي المتمثل في الموافقة على إطلاق سراح ثلاثة محتجزين أمريكيين، من أصل إيراني، كانت طهران تتهمهم بالتجسس، إضافة إلى ضابط الاستخبارات الأمريكي السابق روبرت ليفنسون. في المقابل فك الاتفاق، الذي جاء بعد تفاوض استمر لما يقارب العامين، الحجز عن أموال إيرانية تقدر بسبعة مليارات دولار.
كان من المتوقع أن يشمل الانخراط الجديد لجم المجموعات المسلحة المدعومة من إيران، خاصة في لبنان واليمن، عن القيام بأية تهديدات جديدة للسلم الإقليمي، لكن تدهور الأمور في قطاع غزة، واستمرار الحرب مع توحش العدوان الإسرائيلي في هجماته غيّر هذا الواقع بشكل جذري.
كان الجميع يستشعر خطورة أن تتوسع حلبة الحرب، فالدرس المتكرر، لكن الذي لا يستوعبه إلا قليل من الناس، هو أنه يصعب التحكم بمسارات الحروب ومستقبلها
إيران، التي تقدم نفسها كزعيمة لما يعرف بـ»محور المقاومة» لم تكن تستطيع الوقوف مكتوفة الأيدي، لأن هذا كان سيعني أن تخسر صورتها ومكانتها في المنطقة، التي كانت بالفعل تحت التهديد، بسبب ما أظهره سلوك أذرعها في أكثر من بلد. بادرت إيران للتحذير من إغراق المنطقة في الفوضى، ومن توسع الحرب. كان الجميع يستشعر خطورة أن تتوسع حلبة الحرب، فالدرس المتكرر، لكن الذي لا يستوعبه إلا قليل من الناس، هو أنه يصعب التحكم بمسارات الحروب ومستقبلها. الأمر يصبح أخطر إذا كانت هذه الحرب متوسعة الجغرافيا وقابلة للتوجه ليس فقط ضد المصالح الإسرائيلية، ولكن أيضاً ضد مجموع المصالح الأمريكية والغربية في المنطقة. حاول الأمريكيون شرح هذه المخاطر لحكومة العدوان، فيما زار مسؤولون أمريكيون الكيان أكثر من مرة خلال الحرب في محاولة للسيطرة على تطورات الأحداث. قادة الاحتلال لم يستمعوا لنصح أحد وأظهروا منذ الأيام الأولى هوساً غير مسبوق بالقضاء على المقاومين الفلسطينيين، الهدف الذي يبدو اليوم أقرب لحلم بعيد المنال. كان الأمريكيون ومن خلفهم المجتمع الدولي، أي غالب دول الشمال، في مأزق كبير، فهم من ناحية مجبرون على دعم حليفهم الصهيوني، ومن ناحية أخرى يستشعرون حجم الغضب، الذي يعم المنطقة، والذي لا يستطيع أحد أن يدرك كيف سيترجم أو إلى ماذا سيقود. أحد الأوراق، التي كان يملكها «محور المقاومة» المدعوم من إيران، كانت تتمثل في مخارج البحر الأحمر الجنوبية والقريبة من حدود اليمن المسيطر عليها من قبل جماعة الحوثيين. الحوثيون، الذين ما يزالون يبحثون عن شرعية داخل المنطقة وخارجها، كانت مسألة تهديد الملاحة الدولية تظهرهم كجيش قوي ومتمكن.. إظهار القوة وإجبار الخصوم على وقف التعامل معهم كمجرد ميليشيا بقدرات محدودة، كان من الأهداف التي قادت في السابق لتنفيذ ضربات استهدفت مناطق مهمة في داخل كل من السعودية والإمارات. بالنسبة للحوثيين، فإن ما يفعلونه اليوم من استهداف للسفن الإسرائيلية، أو تلك التي تهدف للوصول إلى موانئ الكيان، هو مجرد رد على العدوان الصهيوني. في ذلك المنطق رسالة تتجاوز المعتدي الإسرائيلي إلى جميع المتعاطفين معه، وإلى الأسرة الدولية بقيادة الولايات المتحدة، التي كانت تعتبر أن هذه التهديدات تضر بمصالحها وأنها أمر لا يمكن التسامح معه.
الحوثيون يعلمون أنهم بهذه الخطوة يجبرون العالم على الانتباه، فمن تداعيات تهديدات مضيق باب المندب وخليج عدن، إعاقة حركة التجارة العالمية وارتفاع أسعار النفط، إضافة إلى إضعاف حركة العبور عبر قناة السويس، التي تمر بها نسبة مقدرة من تجارة العالم.
قبل أيام، ورداً على تحركات الحوثيين، شن الأمريكيون والبريطانيون غارات على اليمن وصفها متحدث عسكري أمريكي بأنها كانت شديدة التحديد، فيما وصفها رئيس الوزراء البريطاني بأنها تحرك «من أجل الدفاع عن النفس». في المقابل رأى كثيرون، منهم كتّاب في صحيفة «أوبزيرفر» البريطانية، أن الغارات، التي قيل إنها استهدفت مناطق عسكرية حيوية، هي غير مجدية وعبثية، إذا كان الغرض منها منع تهديدات الملاحة، لأنه لا حل لوقف كل هذه الفوضى سوى الوقف الفوري لإطلاق النار في غزة. الولايات المتحدة، التي كانت هي الأخرى بدأت فقدان هيبتها في المنطقة، مع تزايد الشكوك حولها كحليف موثوق أو كقوة عظمى ضامنة للأمن العالمي، كانت مجبرة هي الأخرى على القيام بخطوة. لأسابيع حاولت واشنطن تجنب التحرك العسكري عبر الاكتفاء بالتهديد والوعيد والدعوة لإيقاف التهديدات، لكن استمرار الهجمات الحوثية المستفزة على السفن العسكرية والتجارية العابرة، جعل الأمريكيين في وضع لا يحسدون عليه، ما قاد في الأخير إلى تنفيذ هذه الغارات. اليوم تثار تساؤلات حول ما إذا كانت هذه الغارات ستقود إلى وقف التهديد الحوثي، أم إلى مزيد من الاشتعال الإقليمي؟ يظهر هنا أيضاً خلاف فرنسي أمريكي في وجهات النظر، وهو خلاف يفسر لماذا لم تشارك فرنسا في العملية العسكرية ضد الحوثيين. على ما يبدو فإنه، وفي الوقت الذي تهتم فيه الولايات المتحدة بتثبيت صورتها كقوة عظمى، ترى فرنسا أن من الواجب اتباع سياسة منحصرة في الدفاع المحض، مع تجنب الدخول في صراعات جديدة. باريس، التي تعاني من أزمات كثيرة ومن انحسار النفوذ، تدرك أن أي انخراط متسرع سيكون كفيلاً بتمدد السخط الشعبي إلى مصالحها، التي باتت مهددة بالفعل في جغرافيات واسعة، بهذا يحاول الفرنسيون، قدر المستطاع، الحفاظ على مكانتهم في المنطقة كشريك يمكن الوثوق به، لا كمحارب في صف «إسرائيل»، على غرار الصورة التي يظهر بها الأمريكيون حالياً.
للتذكير فإن فرنسا تمتلك قواعد طيران جاهزة في كل من دولة الإمارات وجيبوتي، لكن انطلاق أي هجوم من هذه القواعد يعني توريطاً لبلدين قد لا يكونان راغبين في المشاركة، أو في تحمل ما سوف يرتد من نتائج. في الأوساط الفرنسية اليسارية والمعادية للإمبريالية تم استقبال الخطوة الفرنسية باحتفاء، حيث امتدحت شخصيات سياسية بارزة كجان لوك ميلانشون قرار عدم اشتراك بلاده في ما سماها «الهجمة الأنكلوساكسونية» على أرض اليمن. في الداخل اليمني سوف يؤدي هذا الاشتعال في الغالب لتعطيل التسوية السياسية، والحوار الذي كان قد بدأ قبل فترة. في المقابل تكسب إيران حينما يقول وزير الخارجية الأمريكي إنها مسؤولة عن توفير السلاح والتدريب والدعم للحوثيين، فهذا يذكّر بأنه لا توجد إجابة عن السؤال القديم: لماذا لا تتم مهاجمة إيران بشكل مباشر عوضاً عن ضرب أهداف ثانوية بعيدة في العراق أو اليمن أو سوريا؟ ما يمكن استنتاجه، إذا ما استبعدنا فكرة المؤامرة القائمة على صداقة سرية بين واشنطن وطهران، هو أن مثل هذه الهجوم سيكون بتكلفة عالية، وهو عين الرسالة التي ترغب إيران في إيصالها.
*نقلا عن القدس العربي