في مدينةٍ عُرفت تاريخيًا بأنها عاصمة للحريات، ومنبرٌ مفتوح لأصوات الجماهير، تبدو عدن اليوم مُكبّلة الأفواه، واقعة تحت قبضة سلطة لا ترى في التظاهر إلا تهديدًا لسلطانها الهش. يمنع المجلس الانتقالي، الذي زعم زورآ تمثيل “القضية الجنوبية”، التظاهرات الشعبية في شوارع عدن، لا حرصًا على الأمن، ولا خوفًا من الفوضى، بل لأن هذه الجماهير باتت تضعه أمام مرآة الحقيقة، وتكسر الوهم الذي أحاط نفسه به منذ سنوات.
أول ما يمكن ملاحظته أن “الانتقالي” لم يعد صوتًا جنوبيًا خالصًا. فقياداته العليا تحمل جنسية الإمارات ويمثلون مصالح (وطنهم الجديد)، وتُدار سياساته من غرف مغلقة في أبوظبي. لقد تحوّل من كيانٍ أدّعى تمثيل تطلعات الجنوبيين إلى ذراع إقليمية تنفذ أجندات لا علاقة لها بحقوق الجنوبيين، بل تُغذّي الانقسامات، وتُقوّي منطق التبعية.
إن الفساد المستشري داخل بنية المجلس بات مادة يومية للناس: من صرف الأموال دون حسيب، إلى مشاريع وهمية، وتلاعب بالمساعدات، وتوظيف للمحسوبين لا للكفاءات. وعوضًا عن أن يواجه المجلس هذا الواقع، يختار قمع المظاهرات، لأن الشارع أصبح خصمه الأول فهو صوت الضمير الجنوبي الذي يرفض الانحدار.
وما زاد الطين بلة أن “الانتقالي” أعاد إنتاج المناطقية بشكل فج، إذ أفرغ القضية الجنوبية من بعدها الوطني الجامع، وضيّقها إلى حدود الولاء المناطقي والجهوي، مكرسًا انقسامات لا تخدم سوى من يعمل وكيلآ لهم، ومعطلاً بذلك أي مشروع وطني حقيقي يسعى للعدالة في دولة إتحادية جديده.
وفي عدن، حيث تجتمع كل مناطق الجنوب بل اليمن كلها، يشعر المواطن اليوم بأنه أمام كيان لا ينتمي إليه، ولا يفهم وجعه، ولا يمثل طموحه. مجلس يعيش في عزلته، يتحلل من التزامه الأخلاقي والسياسي تجاه الشعب، ويُكرّس بقاءه بالقوة لا بالقبول، بمطالبة الأطراف الأخرى بالتبعية لا بالحوار.
لهذه الأسباب جميعًا، يمنع “الانتقالي” التظاهرات. لأنه يخشى من لحظة يصرخ فيها الشارع بصوت واحد: لقد سقط القناع.