بين موقفين… وبين زمنين مختلفين
الإثنين, 22 ديسمبر, 2025 - 04:44 مساءً

في خمسينيات القرن الماضي، كانت اليمن كيانا ممزقا، موزعا بين استعمار مباشر في الجنوب، وحكم تقليدي مغلق في الشمال، بلا دولة جامعة ولا إطار قانوني موحد. في ذلك السياق، سعت بريطانيا إلى هندسة مشروع «الجنوب العربي» بوصفه كيانا سياسيا منفصلا عن اليمن، بهوية مصطنعة، وارتباطات دائمة بالمستعمر، ومعاهدات تضمن بقاء النفوذ البريطاني وتقطع الصلة التاريخية والجغرافية باليمن. لم يكن المشروع تعبيرا عن إرادة محلية، بل أداة استعمارية صريحة لتكريس التجزئة ومنع تشكل كيان يمني موحد.
 
هذا المشروع فجّر مواجهة وطنية واسعة في الجنوب، وأجبر الحركة الوطنية هناك على تجاوز المطالب الإصلاحية الجزئية، والانتقال نحو أفق أشمل، تمثّل في استعادة اليمن بوصفه وحدة تاريخية. وهكذا تحوّل شعار وحدة اليمن إلى الرد الطبيعي والتاريخي على محاولة تفكيكه، وإلى قاعدة نضالية أسقطت مشروعا استعماريا صُمّم بعناية.
 
ولم تكن معارضة «الجنوب العربي» حكرا على القوى الوطنية في الجنوب؛ فقد اتخذ الإمام أحمد موقفا رافضا له، ليس حبا بالوحدة بمفهومها الحديث، بل إدراكا بأن القبول بالمشروع سيضعه في موقع المتواطئ مع الاستعمار، ويقوّض ما تبقى من شرعيته أمام اليمنيين والعرب. وبرغم الطابع البراغماتي – وربما المراوغ – لهذا الموقف، إلا أنه شكّل، في ميزان تلك المرحلة، عاملا إضافيا في إسقاط المشروع البريطاني، وهو ما يتفق عليه معظم دارسي تاريخ اليمن الحديث.
 
غير أن المفارقة الصادمة تظهر عند نقل المقارنة إلى الحاضر. فاليمن اليوم ليست يمن الخمسينيات:
 
هي دولة موحدة، نتاج نضال تاريخي طويل، وكيان قانوني معترف به دوليا، وعضو في المنظمات الدولية، وتملك – نظريا على الأقل – شرعية دستورية وسيادية لا لبس فيها. ومع ذلك، نرى اليوم سلطة يفترض أنها تمثل هذه الدولة، وتستمد شرعيتها من وحدتها، تمنح غطاءً سياسيا لمشاريع تعيد إنتاج منطق «الجنوب العربي» بأسماء جديدة، وتُشرعن كيانات ما دون الدولة، وتتعامل مع التجزئة كخيار سياسي قابل للتسويق.
 
هنا يصبح التناقض فادحا:
 
فإذا كان رفض الإمام أحمد لمشروع التفكيك في الخمسينيات قد جاء في سياق يمن مجزأ بلا دولة جامعة، فإن تمرير مشاريع التفكيك اليوم يتم في سياق دولة قائمة، وشرعية قائمة، واعتراف دولي قائم. وبهذا المعنى، يبدو موقف الإمام – رغم كل ما يحيط به من تحفظات تاريخية – أكثر اتساقا مع فكرة اليمن من موقف مجلس القيادة الرئاسي، الذي لا يواجه مشروعا استعماريا مفروضا، بل يشارك، عن قصد أو عجز، في توفير الغطاء السياسي لتفكيك الدولة التي يفترض أنه جاء لإنقاذها.
 
ليست المفاضلة هنا بين أشخاص، بل بين معيارين:
 
معيار يرى في وحدة اليمن خطا أحمر حتى في زمن التشظي، ومعيار يفرّط بها اليوم، في زمن الدولة، تحت ذرائع الشراكة، والواقعية، وإدارة التوازنات.
 
*نقلا عن صفحة الكاتب في فيسبوك.
 

التعليقات