دروس يوليو
الأحد, 31 يوليو, 2016 - 08:00 مساءً

في الذكرى الثانية بعد المائة، لاندلاع الحرب العالمية الأولى، نستذكر قصة بداية الحرب، حين أقدم شاب صربي، على اغتيال وريث العرش النمساوي الأرشيدوق فرانز فريدناند في سيراييفو، بعد شهر من الاغتيال أعلنت الإمبراطورية النمساوية-المجرية، الحرب على مملكة صربيا، وتحديداً في الثامن والعشرين من يوليو عام 1914.
 
ظنّ الذين أشعلوا فتيل الحرب العالمية الأولى في أوروبا، أن أربعة أعوام كفيلة بإنهاء أسباب اندلاعها، لكنهم لم يتوقعوا فاتورتها باهظة الثمن، إذ خلّفت أكثر من ثمانية ملايين قتيل، ونحوهم من الأسرى والمفقودين، وأكثر من واحد وعشرين مليون جريح، فمضوا على إثرها لإنشاء عصبة للأمم بهدف إيجاد مجتمع دولي تقوده مفاهيم وآليات تضمن الحدّ المعقول من التعايش الحضاري.
 
بدا العالم في لحظة ما وكأنه قد اتفق على أن مظلة دولية يمكنها أن تكون إطاراً كافياً لحل مشاكله والنأي عن الأساليب القديمة في التوصل إلى حلول "عسكرية" عبر الحروب أو الانقلابات العسكرية، ولم يلبث سوى عقدين بعد الحرب العالمية الأولى حتى كان يلجأ لحرب عالمية ثانية تجاوز عدد ضحاياها اثنين وستين مليون شخص، مما دفع المجتمع الدولي إلى إيجاد منظمة الأمم المتحدة بشكلها الحالي، واتضح لاحقاً بعد العديد من الحروب وعشرات الانقلابات في العالم الثالث على وجه الخصوص، أنه لم يعِ الدرس حتى يومنا هذا.
 
نعم، لم يعِ الدرس.. ففي الخامس عشر من يوليو عام 2016، كان العالم على موعد جديد مع محاولة انقلابية شهدتها تركيا ضد مسار حضاري تشكّل في عقود من الحراك السياسي والعسكري المتقلب، منذ أن أسسّ مصطفى كمال أتاتورك الجمهورية التركية (العلمانية) إلى أن وصل المشهد الحالي برجب طيب أردوغان إلى سدة الرئاسة.
 
في هذه المحاولة الفاشلة ضُربت رموز الديمقراطية الممثلة بمجلس الشعب واستُهدف عدد من وسائل الإعلام، كان الوضع استثنائياً في تركيا، فالحكومة والمعارضة كانتا ضد الانقلاب، ومع ذلك عبّرت مواقف دولية عن أن ما يحدث "مبعث قلق وينبغي ضبط النفس"!
 
هل بات علينا أن نقلق من هذا القلق؟ ألم يصل المجتمع الدولي إلى قناعة أنه حين يسيطر العسكر ودباباتهم على مقدرات الأمور، تبدأ العجلة بإزهاق الأرواح ولا تنتهي ببعثرة مليارات الدولارات، ولا يحيد الجميع عن استهداف حق الإنسان في وجوده وكرامته.
 
ألا تذكرون تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون بعد انقلاب الجنرال عبدالفتاح السيسي في الثالث من يوليو 2013، من أن "التدخل العسكري في شؤون أي دولة هو مبعث قلق" أو تصريحات مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي -حينئذ- كاثرين أشتون بضرورة "العودة سريعاً إلى العملية الديمقراطية بما في ذلك إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية حرة ونزيهة" وكأن الرئيس الذي تم الانقلاب عليه (محمد مرسي) قد جاء على ظهر دبابة!
 
يعلمنا التاريخ أن كلفة التأخر أو التباطؤ في اتخاذ موقف حازم من أي تغيير خارج عن خيارات الشعب هي كلفة عالية على جميع المقدرات، فالأرقام تشير -على سبيل المثال- إلى أن أكثر من 41 مليار دولار من أموال الخليج قد ضخّت في مصر ما بعد الانقلاب، فلا هي أوقفت الفساد ولا هي أغنت العباد.
 
إن كلفة تأخر العالم الحضاري والحرّ والمتقدم في وقف انتهاك حق الشعوب في حكم نفسها، من شأنه أن يزيد حجم الدماء ويوسّع من فجوة السلم الأهلي في أي مجتمع، ولعل الدول التي شهدت الانقلابات أو حروباً أهلية أو خارجية لا تزال جراحها النفسية والحضارية نازفة إلى وقتنا هذا، ونموذج العراق أقرب دليل: فهل بات العراقيون يعيشون اليوم وضعاً أفضل من ذاك الذي وعدوا به عشية الحرب الأميركية-البريطانية على بلادهم عام 2003، حين وعدوا بديمقراطية تحملها لهم مدافع الدبابات وطائرات إف 16.
 
كنا نظن أن العالم قطع شوطاً في تجاربه وتحضّره، بل وقطع علاقته بكل إرثٍ له نفسٌ انقلابي.. عسكري.. إرث يعطي للقوة ما لا يعطي للشعب، فإذا بنا أمام دول كبرى وأخرى دونها تستعجل نجاح الانقلاب في تركيا لأسباب عديدة، بل وتتمنى عودة العسكر للسيطرة على مشهد حضاري في منطقة تحتاج لهذا النموذج أملاً للمستقبل، ولعل في ذلك مخالفة منطقية لفكرة المصلحة والمنفعية من حيث المبدأ السياسي ذي الروح الأخلاقية.
 
لنا أن نتخيّل لو أن تركيا انزلقت نحو الفوضى، كم سيؤثر ذلك على مصالح أوروبا -على سبيل المثال- سواء أكان ذلك في ملف اللاجئين أم الإرهاب وغير ذلك من التحديات الكثيرة التي كانت ستقف في وجه المترددين والمتورطين.
 
خلاصة القول: في العمل السياسي تتحدد قيمة الفلسفة الأخلاقية للفعل بمقدار إسهامه في النفع العام، ولذا فليس المطلوب ممن طبّل وهلل ودعا الله في سرّه وعلنه لنجاح انقلاب العسكر في تركيا، ألا يبحث عن مصالحه! فهي محور ارتكاز في العلاقات الدولية، لكن عليه وعلى المجتمع الدولي أن يعلم أن غياب أي مرجعية لسيادة قواعد القيم والأخلاق كفيل بأن يدمّر البلاد والعباد.
 
وعلى المجتمع الدولي أن يبحث له اليوم عن آليات جديدة تضمن له الحدّ الأدنى من التعايش الحضاري الذي يكفل للعسكر أداء دوره دون رهن آلته العسكرية لصالح مطامح وأحلام الطامعين، بما يحفظ للساسة حق إدارة الحكومات، وللشعوب حق تقرير مصيرها، وللدول حق التدافع، وللجميع حق التعايش الحضاري.
 
 
 

التعليقات