[ الراحل توفيق القباطي في ساحة التغيير بصنعاء ]
في صباح كانوني من العام 2019م كنت مع مجموعة من الأصدقاء، عارف الشيباني، وجلال أحمد علي، ومحمد أحمد ومحمد هزاع، بالقرب من مصحة الأمل بمنطقة البليلي في الصافية، فقررنا زيارة توفيق سيف الذي كان يستشفي فيها، بعد نوبة تعب قاسية.
حينما قابلناه، بعد جهد، كان يبدو متعافياً، وتذكر بسهولة شديدة صديقنا محمد أحمد الذي تشاركنا معاً سكناً متواضعاِ مطلع التسعينيات بالقرب من الجامعة القديمة، حتى أنه سأله عن أخبار كتاباته القصصية!! على الرغم من أن الأخير منقطع عن الكتابة تقريباً، وأيضاً صار تواصله ضعيفاً للغاية مع المنشغلين بها.
قال لنا في تلك الزيارة أنه سيخرج لاستكمال مشاريع كتابة في الفلسفة والفكر، وسيعمل على تجميع قصائده المتناثرة في الصحف والدوريات لنشرها في كتاب.
بعد أيام قليلة، من تلك الزيارة، أخرجه أحد إخوته من المصحة، ونقله إلى مدينة الحديدة حيث مسكن العائلة، فصار التواصل معه صعباً، وأن القليل من أخباره كانت تصلني من الصديق أحمد باخريبة (حماده) الذي بقي على تواصل مع أخيه.
وحينما طلب مني العزيزان هاني الصلوي ومحمد أحمد عثمان لاحقاً مساعدتهما في الحصول على نصوص توفيق الشعرية لإصدارها بواسطة "مؤسسة أروقة" في القاهرة، لم أجد غير الصديق مأمون سلطان الربيعي لمساعدتي في الوصل إلى أخيه من أجل هذا الغرض، غير أن الأمور لم تسر كما ينبغي.
تفاجأت فجر الجمعة الماضي، 10 يوليو/تموز، مثل كثيرين بوفاته في الحديدة، بسبب عوارض صحية شديدة القسوة (سرطان القولون)، ولم يمته المستدام النفسي في اعتلاله الطويل، ولم أستطع الكتابة ساعتها، وانتظرت قليلاً حتى أتخفف من انفعالات اللحظة، لأعيد معاينة توفيق من بعض تفاصيل تلك الرحلة الطويلة، من معرفتي به التي تمتد لقرابة 35 سنة.
كنت شاباً في بداية العشرينيات، حينما كنت أتردد على كلية الآداب في مباني حي القاع، وأنا طالب في كلية التجارة في المباني الجديدة للجامعة في العام 1987م، كنت قد بدأت بتكوين صداقات جديدة مع وسط جديد من المثقفين والكتاب، الذين يلتقون في كلية الآداب بمن فيهم منشغلون بقضايا الكتابة، يدرسون في أقسام الكلية ذاتها في سنوات متقدمة، كان توفيق سيف القباطي أحدهم، وعلى وشك التخرج من قسم الفلسفة، الذي يزامله فيه صديق العمر علوي السقاف.
كان توفيق يتميز عن زملائه بأناقته وحضوره كمثقف غير مروَّض، وكان يتباهى ببشرته الحنطية التي تجعله كثير الشبه بالفنان أحمد زكي الذي كان في ذروة عبقريته الفنية حينذاك؛ لتوفيق أحلامه الخاصة في الحياة، وله رؤيته فيها، كان حساساً تؤثر فيه أبسط المواقف، ومع ذلك لم يكن يتنازل عن قناعته وإن بدت شديدة الصلابة، وكان يقول إن مكانه الوظيفي الذي يستحقه ليس الدائرة الاجتماعية في مركز الدراسات والبحوث اليمني الذي توظف فيه بعد تخرجه بتفوق، وإنما معيداً ومدرساً في الكلية، لكنهم تآمروا عليه وسلبوه حقه.
أراؤه على مثاليتها وروما نسيتها الثورية كانت تشدنا إلى أحاديثه في قضايا الأدب والفكر والسياسة، حتى إننا ذات مساء كنا محلقين حوله وحول المرحوم محمد يحيى الصبري (زميلي في كلية التجارة) أثناء جدلهما في مقهي بالدائري الغربي، وكنت أميل لوجهات نظر توفيق في القضايا المطروحة، وكان يعرضها بسياقات نظرية واصطلاحات فكرية متعالية، على الرغم من أن زميلي محمد كان كلمنجياً، ومنظراً سياسياً مقتدراً، فكان من المفترض أن أتخذ محمداً متراساً لي باعتباره منتسباً لكليتي الأم، غير أني انحزت لتوفيق الذي خذلته في أغلب جلسة النقاش إرباكات اللغة وتشوشها، رغم قوة طروحاته النظرية.
في العام 1990 انتقل للسكن معنا في عزبة طلاب بالقرب من الجامعة، بعد أن تعذر عليه السكن مع زملاء له، وهي العزبة التي بقيت لسنوات طويلة محصورة -كسكن- بمنتمين لمنطقة واحدة، منطقة بني شيبة، وكان توفيق أول وافد إليها من خارج أبنائها، فشكل إضافة عجيبة للسكن على رأسها الفوضى والبوهيمية، التي لم ترق للكثيرين، لكنها كانت هي التجلي الحقيقي لتوفيق الشاعر المتمرد والحالم الاستثنائي، الذي كان ينفق كل راتبه في المركز في ظرف أيام ثلاث على أشياء عجيبة وطريفة، ثم يبدأ بعدها في رحلة الدَّين الطويل.
مضت الأيام والسنون وتوفيق يحلم باستكمال دراساته العليا، ويحلم بالاستقرار في إطار عائلة، ويحلم بالتأليف في موضوعات فكرية لم تقارب بما فيه الكفاية من قبل المشتغلين في حقولها الضيقة حسب تعبيره، ويحلم أكثر بإصدار ديوانه الشعري المشتت.
ولم يحقق من أحلامه البسيطة شيئاً، لكنه راكم من الألم جبالاً، بسبب الربكات النفسية القاسية، التي عاناها خلال ثلاثة عقود كاملة، وكانت أشدها قسوة تلك التي ترتبت على سجنه في العام 2016م بتهمة حقيرة، لفقها له مخبرو الأمن الوقائي المحسوبون على المثقفين، ولم يحل بينه وبين عقوبة بدائية ولا إنسانية -كانت ستنفذ بحقه- إلاَّ حملة تضامن وصمود الكثير من أصدقائه الأوفياء، الذين تابعوا قضيته في الأقسام والنيابات، وترتب على تلك المحنة انهداماً أكبر في حياته فعاش متشرداً جائعاً، ينام في "اللوكندات الشعبية" البائسة وأحياناً في الأرصفة، قبل أن تتصدر حملة تضامن معه من أصدقائه الشعراء لإنقاذ حياته، فتم نقله لمصحة الأمل الذي رأيته فيه لآخر مرة.
ومثل كل مرة كنا نظن أن رحلته الأخيرة إلى الحديدة ستخفف قليلا من تعبه، ليعود من جديد إلى صنعاء لاستكمال تنثير أحلامه الصغيرة في الحياة، غير أنه هذه المرة ذهب إلى مدينة البحر ولم يعد، وكأنه يقول:
يا للحنين.. مخضباً بالأشرعة
بنوارس العهد البعيد
وزوارق الماضي التي
ظلت هنا
كانوا هنا معي يوما
ويوما هاجروا وتغربوا
كادت جياد البحر
تبعد بيننا
همست بسر لي رنا
والبحر يفضح سرنا
عام سعيد يا رنا
البحر يذكرهم
وينساني أنا
استدراك:
التقطت له الصورة المرفقة في مايو 2011 في ساحة التغيير في صنعاء، وكان وقتها في ذروة تعافيه النفسي، ومثل أغلب اليمنيين كان يرى في فبراير خلاصاً حقيقياً، لكنها السياسة وألاعيبها التي استطاعت إطفاء أمل كبير كانت تعبر عنه مثل هذه الابتسامة لتوفيق.