صور منتشرة لضحايا الجماعة ورقابة مستمرة وفرض المذهب الواحد
جولة في صنعاء كنموذج مصغر لـ أوقيانوسيا .. كيف نفهم شمولية الحوثيين في مرآة جورج أورويل؟
- صنعاء - خاص الخميس, 16 مارس, 2023 - 07:15 مساءً
جولة في صنعاء كنموذج مصغر لـ أوقيانوسيا .. كيف نفهم  شمولية الحوثيين في مرآة جورج أورويل؟

[ صنعاء تحولت لمعرض دعائي لجماعة الحوثي ]

على غرار التطويق المادي "الأمني" المفروض على المواطنين في مناطق سيطرتها؛ تطبق جماعة الحوثي حصارا نفسيا مضاعفا على المواطنين، محكمة السيطرة عليهم من النطاق المادي إلى المعنوي، ومن الفضاء العام إلى المساحات الشخصية، ضمن سعي حثيث لإخضاعهم في نطاقها الخاص.

 

فمن فعاليات تكريس الهوية الطائفية، إلى الهيجان بالصرخة في كل مكان، إلى الدورات الثقافية التي تفرضها الجماعة على المواطنين لاستقطابهم إليها؛ يمر الأثر الحوثي في حياة اليمنيين بذلك الشكل وأكثر منه، حيث يتمدد الخناق الذي تمارسه الجماعة ضد الناس إلى مساحات جديدة كل يوم، ليغدو حالة من سيطرة شمولية على الحياة.

 

واقع خانق

 

في صنعاء على سبيل المثال، توحي يافطات صور قتلى الجماعة الماثلة في كل مكان وشارع؛ بحالة من حصار معنوي تدفع المرء للشعور بكونه عالقا في أحد النماذج الدرامية، تلك التي لطالما مرت عليه في أفلام الرعب، أو قرأ عنها في روايات الديستوبيا، على غرار رواية "1984" للبريطاني جورج أورويل، والتي تعد النموذج الأدبي الأبرز في تجسيد الديكتاتوريات التي نعيش واحدة منها اليوم في اليمن.

 

الرواية التي تتحدث عن الأوليجاركية (حكم الأقلية)؛ تناقش التطورات المرعبة لتشكلات السلطة الشمولية، التي تسعى - كنموذج ديكتاتوري - لتحقيق التحكم الكامل في الناس؛ وتقبل الإسقاط على الواقع اليمني اليوم في مناطق سيطرة جماعة الحوثي، دون أن يكون في الأمر أي مبالغة.

 

مناخ الرواية

 

"أوقياسيا"، محط الاشتغال في رواية أورويل، وهي بلد من خيال الكاتب تخضع لسلطة بالغة الديكتاتورية، حيث تغص شوارع المدن بالشرطة السرية، وشاشات الرقابة والرصد، وشعارات تمجيد الحزب الحاكم، ويافطات الترهيب "الأخ الأكبر يراقبك"، التي تشير إلى حاكم البلد، وزعيم الحزب الذي يسيطر على كل مناحي الحياة، وذلك مشهد لا يختلف اليوم كثيرا عن صنعاء، وبقية مناطق سيطرة الحوثيين.

 

عبر قصة "وينستون سميث"، بطل الرواية، الشاب، ذو الـ 39 عاما؛ تجسد رواية 1984 صورة قاتمة للحياة الإنسانية في ظل هيمنة السلطة الشمولية، يعمل البطل -ضمن صفوف الحزب- في وزارة الحقيقة، وتقتضي مهمته تزيف حقائق التاريخ خدمة للسلطة شديد الشمولية في البلد.

 

يعيش البطل في قلب لندن عاصمة أوقيانوسيا، ورغم عمله لصالح سلطة الأخ الأكبر، لكنه يشرع بداية في التمرد عليه من خلال تفكيره في كتابة بعض المذكرات، حيث أن مجرد التفكير في ذلك يوجب الإعدام في دولة الأخ الأكبر.

 

 

ملاحقة النوايا

 

تحكي رواية أورويل قصة حياة "وينستون" الذي يختنق بالصراع الذاتي، ويشهد تمزقات ذهنية وعاطفية، بسبب مخالفته للحزب، وتفكيره في التمرد عليه، ويواصل التفكير بالخيانة، بالتزامن مع تعرفه على "جوليا"، زميلته في الوزارة، التي يقع في غرامها.

 

يقرر العمل مع جوليا على وسائل للتمرد على سلطة الحزب، وينتهي بهما المطاف -بوشاية من صديقهما "أوبراين" الذي انتحل صفة معارض للحزب للإيقاع بهما- في قبضة شرطة الفكر التي تعتقلهما بتهمة "الحب" الذي يعد جرما وتهديدا للسلطة، ليكتشفا أن صديقهما الواشي كان مخبرا مع الحزب، واقتضت مهمته الإيقاع بـ"ونستون" و"جوليا" بعد تنامي الشكوك حولهما.

 

في المعتقل يتعرضان لأقسى انواع التعذيب بقصد كسر إرادتيهما، ويخضعان لعملية تُعرف لدى الحزب بـ"إعادة تأهيل"يتم من خلالها غسل أدمغة الضحايا بوسائل متعددة، وتنتهي بتحطيم إرادة "ونستون" ودفعه إلى الاقتناع بكونه مخطئا، وقيامه بتطهير ذهنه من أفكار الخيانة، مكرسا نفسه لمحبة الأخ الأكبر وتمجيد سلطته.

 

الأخ الأكبر في صنعاء

 

ذلك جوهر ما تتحدث عنه رواية 1984، التي تجسد نموذجا خياليا من النظام الشمولي، لا يختلف كثيرا عما بات عليه الحال في صنعاء، التي غدت نموذجا مصغرا من أوقياسيا، وقد صارت محضنا عامرا بالثقافة الحوثية.

 

فالمساجد والجامعات والميادين وحتى الشوارع، باتت مساحات للدعاية الحوثية المتعاظمة، التي تطفر من أكشاك الباعة، ومحطات الراديو، ومن القنوات الفضائية للجماعة، ومنابرها على الواقع الافتراضي، مشكلة حلقة خانقة للحياة في المدينة التي لطالما اتسعت لليمنيين كافة، بكل تنوعاتهم، قبل أن تصير اليوم مدينة للون وحيد.

 

في رواية أورويل يسعى الحزب الحاكم لإخضاع الناس بكل الوسائل، ويعمد لفرض السيطرة عليهم حسيا ومعنويا، والقيام بقلب المفاهيم والرؤى لتحقيق ذلك الهدف، مكرسا ثلاثة مبادئ معكوسة كتشريعات أساسية في سلطته، مفادها، الحرب هي السلام، والحرية هي العبودية، والجهل هو القوة، وتعد جزءا من منهجية فكرية تهدف لإخضاع المواطنين، يتبع الحزب من خلالها وسائل متعددة، لكبت الحريات وزرع الخوف، وممارسة الإذلال، وتعمُّد التجهيل، ومحاربة الفكر بتقليل عدد كلمات اللغة، للحد من قدرة الناس على التفكير، بهدف تطويعهم وكبحهم عن التطور وانتزاع ولائهم للسلطة، وذلك عين ما تسعى جماعة الحوثي لتكريسه في مناطق سيطرتها، باختلافات طفيفة في وسائل التطبيق.

 

تنتهج الجماعة أساليب مشابهة لتلك التي اتبعتها سلطة أورويل في الرواية، وتكرسها لذات الهدف؛ القمع وترهيب المواطنين لدفعهم إلى موالاة الجماعة واتباع فكرها المتطرف.

 

فمن تغيير المناهج الدراسية، إلى تكريس الدورات الثقافية، وإلحاق الناس بها طوعا أو كرها، إلى استقطاب الجماهير وتجنيدهم، وتكثيف الفعاليات والدعاية الطائفية؛ تتمدد الوسائل الحوثية الهادفة إلى انتزاع ولاء اليمنيين لصالح الجماعة.

 

 

مفتاح فهم الحوثيين

 

توفر الرواية التي نجد لمفرداتها حضورا حيويا في الخطاب الثقافي اليمني؛ مدخلا معرفيا لفهم ما يحدث اليوم في الواقع، فمن خلالها يمكن النفاد إلى النموذج التي تسعى جماعة الحوثي إلى تكريسه في اليمن.

 

لا تهدف الجماعة إلى فرض هيمنة سياسية فحسب، فهي سلطة شمولية لا تنتهي بالوصول إلى السلطة وبالهيمنة على أجهزة الدولة؛ بل تسعى إلى فرض هيمنة شمولية على الحياة عموما، وفي طريقها تلتهم كل شيء، وإلى جانب اختطاف السلطة تحتكر مجالات الثقافة والاقتصاد والدين، وكافة أوجه النشاط العامة وصولا إلى المساحات الشخصية للمواطنين، والغاية السيطرة الكلية على الحياة في اليمن.

 

تجسد رواية أورويل الكيفية التي تغدو بها الحياة أزمة متفاقمة على الدوام في ظل سيطرة السلطات الشمولية، ونحن نخبر اليوم المشهد ذاته في اليمن وقد استحالت الحياة إلى حالة طوارئ دائمة.

 

تستفيد جماعة الحوثي من طول أمد الحرب، وتجهد يوما بعد آخر في تشييد هويتها المفتعلة بطرق متعددة على حساب الهوية اليمنية التي تشهد تشظيا بفعل الانقسامات الجغرافية والفئوية التي أثارتها الجماعة ذاتها.

 

 

حصار رمزي ومعنوي

 

فأشكال الدعاية التي تكرسها الجماعة مرارا، والتي تشمل الهيجان بالصرخة في كل مكان، والإحاطة الرمزية المبثوثة في كل مكان على شكل صور قتلى وشعارات احتفاء وأخرى للكراهية، والمبالغات المفرطة في الهتافات والاحتفاء بالمناسبات الطائفية؛ تعبر جميعها عن محاولة مستميتة لإخضاع حسي ورمزي، مادي ومعنوي، تُمارسه الجماعة بشكل ممنهج ضد اليمنيين.

 

لا تتوانَ الجماعة عن توظيف مواردها الإعلامية والثقافية لتكريس هستيريا العداء للخارج، السعودية والإمارات، أمريكا وإسرائيل، لإلهاء الناس وصرف أنظارهم عن الاستغلال الطبقي الذي تمارسه في الداخل.

 

يصل الاهتياج الانتقامي للجماعة اليوم حدودا قصوى، فالرقابة الأمنية على المواطنين تتنامى والحصار النفسي يتضاعف ويتجذر اليأس بين الناس، وذلك ما أدى إلى هدم الثقة بين أفراد المجتمع، وولّد التوجسات والشكوك والمخاوف حتى بين الموالين للجماعة نفسها.

 

فالفضاء العام غاص بالارتياب والقلق ومكهرب بالوشايات التي تُنسج في كل اتجاه، ولا أحد بوسعه الاطمئنان على مصيره. فالشك هو الحالة السائدة بين الناس، ومنه تُغذّي الجماعة اهتياجها السلطوي إلى الحد الذي يدفع أفرادها أنفسهم إلى تقديم الوشايات إليها حتى عن ذويهم.

 

ليس كثيرا على اليمني اليوم وقد وصل الحال إلى ذلك الحد من السوء؛ أن يعتبر نفسه مُسقَطا في إحدى نماذج الديستوبيا، فما يعيشه الناس في اليمن منذ أواخر العام 2014، لا يزال -لفرط هوله- مباغتا لهم كما حدث أول مرة، فالدولة والأحزاب والكيانات الجمهورية التي لطالما مثلت تطلعاتهم الوطنية؛ أسلمتهم للأوليجاركية الحوثية ببساطة وفرت إلى المنافي.

 


التعليقات