[ لقطة من مسلسل دحباش الذي جرى بثه مطلع تسعينيات القرن الماضي ]
في مشهد من المسلسل السعودي الشعبي الشهير "طاش ما طاش" يظل ناصر القصبي مع عائلته يدور بسيارته في أحد الشوارع بالرياض، منتظرا زميله عبدالله السدحان، الذي هو الآخر يدور بسيارته في الاتجاه الآخر من الشارع، وكل واحد يلمح الآخر، فيتحرك باتجاهه، ويعود لنفس المكان، بينما يكون الثاني، قد تحرك بدوره للمكان المعاكس.
المشهد هذا كان في أحد حلقات المسلسل التي بُثت منتصف التسعينيات من القرن الماضي، ويعكس الوضع العام في ذلك الوقت، ومن يشاهده اليوم يدرك الفارق، في التحول الذي شهده المجتمع، خاصة في مجال التكنولوجيا، بل إن مشاهدته اليوم، لم تعد بذات القدر من جذب الانتباه والضحك، مثلما كان عليه لحظة بثه الأولى، فعملية الدوران تلك الأيام كانت فعلا تبدو واقعية، وبالتالي تبعث على الضحك، فلا وسائل تواصل، ولا هاتف جوال، يسهل الأمر على أبطال المسلسل.
يتكرر الأمر على سبيل المثال مع المسلسل اليمني الشهير، "دحباش"، تستطيع من خلاله أن تدرك حجم التحول الذي طرأ على اليمن، من خلال مقارنة المشاهد التي كانت تظهر في المسلسل بين الأمس واليوم، ففي أحد المشاهد يظهر "دحباش" مع الفنان الراحل "عبدالكريم مهدي"، ويستغرب الأول من دفع أجرة الباص للشخص الواحد، والتي كانت حينها تكلف ريالا واحدا، وهي التسعيرة التي كانت سائدة في ذلك الوقت.
وإذا أخذنا مثالا من عمل عالمي، فبالإمكان الاستشهاد بالمسلسل الأمريكي الكوميدي الشهير "ساينفيلد" (Seinfeld) الذي عرضته هيئة الإذاعة الوطنية الأمريكية من الخامس من يوليو 1989 إلى الرابع عشر من مايو 1998، بتسعة أجزاء متوالية، وهو من كتابة الرائع والمبدع الأمريكي لاري ديفيد، وشاركه في الكتابة والتمثيل جيري ساينفيلد، والذي قام بدور البطولة ممثلاً نسخة خيالية عن نفسه.
في هذا المسلسل يضطر بطله ساينفيلد للعودة أكثر من مرة إلى منزله للبقاء، بانتظار مكالمات هاتفية على هاتف منزله، لاستكمال معاملة، أو للخروج في موعد، إذ لم يكن في ذلك الوقت شبكة الهاتف الجوال متوفرة، أو تطبيقات التواصل عبر الهاتف، كما هو الوضع اليوم، ولهذا كان مثل هذا المشهد وقتها مألوفا، وواقعيا، لكنه اليوم يبدو غريبا، وغير واقعي بالنسبة للجيل الراهن.
لذلك فالعمل الدرامي التلفزيوني هو نتاج بيئته، زمانا ومكانا، وهو وسيلة من وسائل التاريخ والتوثيق لسلوك المجتمع، وإيقاع حياته، والمحيط الشامل في حركته وسكونه، وتعاملاته، على المستوى العام لذلك المجتمع، أو على المستوى الشخصي للفنان، المجسد للدور في تلك الأعمال.
بالنسبة للعمل الدرامي في اليمن، فولادته حديثة، وحتى فترة التسعينيات لم نشهد عملا دراميا تلفزيونيا، استطاع أن يحقق جماهيرية كبيرة، ويصبح البذرة الأولى للعمل الدرامي اليمني، باستثناء بسيط لمسلسل "دحباش" الذي جاء قبيل تحقيق الوحدة اليمنية، وامتد لعامين تقريبا بعدها، وذلك إن الاهتمام الرسمي لم يكن مشجعا للأعمال المحلية، التي كانت في المقابل تعاني من ندرة في شخصيات الفنانين، وربما يعود ذلك لعدم ألفة المجتمع للون المحلي، ثم لتعود المجتمع ذاته على الأعمال الخارجية، وبالدرجة الأولى المصرية، والأمر الأهم هنا لتفرد الإعلام الحكومي بعملية البث، وعدم وجود قنوات خاصة، وليس أمام المشاهد سوى متابعة ما يعرض في الشاشة الحكومية من أعمال.
وبالتالي، عندما انتعشت الفضائيات الخاصة في اليمن، بدأت القنوات بإعداد وتجهيز وبث أعمالها المحلية الخاصة، وأدى ذلك لبروز العديد من الأعمال المنافسة، تبعا للقنوات المحلية العاملة، وهذا الوضع بدأ منذ 2007م، حينما انطلقت قناة السعيدة الفضائية، كأول قناة محلية خاصة، ثم تكاثرت تلك القنوات بدء من العام 2011، وهو العام الذي شهد أحداثا مفصلية بالنسبة للشعب والدولة اليمنية.
لذلك تبدو الفترة التي بدأت فيها الأعمال الدرامية اليمنية بنشاط وتعدد قريبة جدا، وتزيد بقليل عن فترة العقد الكامل (عشر سنوات)، وهي مدة كانت مليئة بالصراع والحروب والعنف والتمزق، ولم تساعد في خلق تراكم للتجربة، حتى نشهد فيها نضوجا، وتكامل، يعود بالفائدة على المشهد الدرامي التلفزيوني في اليمن، فشهدنا أعمال تلفزيونية عديدة، ووجوه فنية صاعدة في مجال التمثيل، بينما كانت التجربة ذاتها عبارة عن مجموعة قطع متناثرة للوحة بحاجة لتجميعها في صورة واحدة.
هذا الوضع من الحرب والتمزق، وظهور مقاطعات مفككة من الأرض اليمنية، تهيمن عليها جماعات متنافرة، ألقى بظلاله على الإنتاج التلفزيوني الدرامي في اليمن، وأثر على جودته، والأعمال التي أنتجها، فعلى سبيل المثال ليس بإمكان أي طرف أن يصور مسلسلا تلفزيونيا محليا في أيا من المناطق التي تسيطر عليها جماعة الحوثي، وسيكون هذا العمل تحت رحمة الجماعة وتدخلها، وإملائها، والأمر نفسه في عدن، التي يسيطر عليها الانتقالي، وربما ذات المشهد يتكرر في مدن أخرى، وإذا وجدت منطقة تتقبل تصوير ذلك العمل، تصطدم بعوامل أخرى، كالبنية التحتية، من فنادق، ومواقع، وإنترنت، .. إلخ.
هذا البون الكبير بين ما يجري على الأرض داخل اليمن، من تضييق، ومطاردة، ومنع، ومصادرة لجماعات الداخل المسيطرة، وبين انتقال أبرز القنوات المحلية للعمل من الخارج، ساهم في خلق صعوبات أمام إنتاج أي عمل تلفزيوني جديد، ويضطر القائمون على هذه الصنعة لإيجاد بيئتهم الخاصة المحاكية للبيئة اليمنية، كي تكون الأحداث أقرب للمشاهد والجمهور، الأمر الذي ضاعف من تكاليف الإنتاج، خاصة إذا ما تم احتساب عملية نقل حشد من الوجوه والفنانين إلى دولة أخرى للتصوير والإنتاج.
ويبدو المال هنا العامل الأكثر استنزافا، فبالإضافة لما سبق، أثبتت كثير من الأعمال التلفزيونية أن المشاهد اليمني يميل للأعمال الكوميدية، أو الهزلية المُضحكة (sitcoms)، ويفضل قضاء ساعات من الضحك اللحظي، وكفى، وهذا الوضع يدفع بمنتجي هذه الأعمال لإنتاج محتوى يتناسب مع طبيعة أغلب الجمهور وميوله، واتجاهاته، لذلك شهدنا أعمال تلفزيونية تتلاءم مع أجواء رمضان، ثم تتلاشى بعد ذلك، ويظل المشاهد في انتظار رمضان جديد ليتابع عمل آخر، وقد لا يكون هذا الأمر منطبقا على الجميع – كجمهور – فهناك فئة قليلة ترفض هذا الواقع، وهذه الأعمال، لكن فعليا ذلك ما أثبتته الأعمال الدرامية السنوية.
فالحاجة لإنتاج عمل درامي ضخم ومؤثر موجودة، لكنها تصطدم بالعديد من العوامل لعل في مقدمتها الميزانيات المالية الضخمة، فمسلسل "ماء الذهب" على سبيل المثال، يختلف عن طبيعة المسلسلات الكوميدية، ويسعى لتقديم مسلسل مختلف، لكن ميزانيته الضخمة في تكاليف الإنتاج لا تجعله في متناول أي قناة لشراء حقوق البث، لذلك لم يجد طريقه للشاشة.
ولتقديم عمل تلفزيوني جيد وملائم وهادف، أنت بحاجة لأموال طائلة، ومسرح محلي مهيأ لك، وبدون هذه العوامل تتعثر أي محاولات لعملية الإنتاج، ولا يمكنك تحمل تكاليف مالية عالية لمسلسل مدته ثلاثون يوما، ثم ينساه الناس بكل بساطة، كما أن واقع البلد الممزق لا يساعد اليوم في العمل بهدوء، ففي كل الأحوال أنت تحت رحمة جماعات السلاح، ولن يكون أمامك سوى المهادنة التي ستؤثر على عملك وقصتك، وتجعلها منحازة، أو ستُمنع من استكمال عملك، وليس أمامك من خيار سوى الهروب إلى خارج اليمن، والعمل هناك وفق الإمكانات المتاحة، والواقع الذي ترسمه، لإنجاح عملك، لذلك شهدنا أعمالا السنوات الماضية، تدور في شقة واحدة، أو متجر واحد، أو حارة واحدة، بسبب عدم القدرة على التواجد داخل اليمن.
في أجواء معقدة كهذي، ولدت العديد من الأعمال التلفزيونية الراهنة، التي تواجه من قبل البعض، بالسخرية، والانتقاد، منذ الحلقة الأولى لبث المسلسلات، وباعتقادي أن بقاء الدراما اليمنية في اللحظة الراهنة، أيا كان محتواها، هو عامل نجاح كبير لها ولصناعها الذين يكابدون الكثير، قياسا بحجم التحديات التي تواجهها، وهي عملية تشبث كبيرة بواحدة من أهم الأعمال الإعلامية التي يراد لها الاحتضار، والانتهاء في اليمن، لنشهد اللون الواحد لجماعات السلاح المتصدرة للمشهد حاليا.
وهنا يبرز سؤال، هل الأعمال الدرامية اليمنية تحاكي الواقع اليمني اليوم؟ بأغراضها، ومشاهدها، وأدوار الفنانين فيها؟ وإجابة السؤال هنا ربما تجدها من طرفين، بين من يقيمها من زاويته الخاصة، ويعيب عليها الكثير، ويراها غير ملائمة، وأغلب أصحاب هذا الرأي – من وجهة نظر شخصية – هم ممن انتقلوا لخارج اليمن، وشاهدوا أعمال دولية، خاصة مع تعدد المنصات كـ نتفليكس وديزني بلاس وأمازون وغيرها، وبالتالي لم يعد لديهم القابلية لتقبل أي عمل محلي، خصوصا مع سنواتهم الطويلة خارج اليمن.
أما الطرف الثاني، فهم الجمهور الأكبر داخل اليمن، وغالبية الأعمال التلفزيونية تأتي من واقع حياتهم، ولها علاقة متصلة بحياتهم اليومية، ولذلك ستجد إجابتهم مغايرة، والقابلية لديهم أكبر لمشاهدة تلك المسلسلات، والتفاعل معها، فعلى سبيل المثال لقي مسلسل "دكان جميلة" الذي تبثه قناة المهرية تفاعلا وأصداء كبيرة داخل اليمن قبل أيام من بثه، من خلال التفاعل الشعبي مع الاسم، والذي تحول بشكل تلقائي كأيقونة تسويق من قبل البعض، مستغلين الاسم وشعبيته.
ماذا عن الفنانين؟ هم بالأساس جوهر العمل الدرامي، والمجسدين للأدوار، ونقلها للمشاهد، لتصبح أقرب لحياته، والوجوه الدرامية اليمنية متعددة، ومميزة أيضا، وحافظت على بقائها، وتسعى جاهدة للتشبث بعملها، رغم المعوقات المادية، وواقع البلد، وهي أيضا جزء من المنظومة العامة للدراما، وتتأثر بعواملها، كالمال، والظروف الأمنية.
خلاصة القول، هذه ليست مرافعة للدفاع عن وضع الدراما في اليمن، فهي باب مفتوح، وبالإمكان الدخول عليه من أكثر من اتجاه، ويمكن لقارئ آخر أن يلاحظ ما لا نلاحظه، فللحقيقة كما يقال وجوه متعددة، لكنها محاولة لنقل واقع معقد لمن يجهله، وإذا ما أردنا توجيه الانتقاد للأعمال الدرامية اليمنية الحالية وفقا لإمكانياتها القائمة فهناك زوايا كثيرة يمكن الإشارة لها، ومن الممكن فعل ذلك في عمل آخر.