[ الشاعر عبدالمجيد التركي ]
عبد المجيد التركي شاعرٌ وصحفي يمني، من محافظة عمران، وتحديدا مديرية شهارة، أصدر أربعة كتب ثقافية، هي "اعترافات مائية" و "هكذا أنا" و"كتاب الاحتضار" ثم أخيراً "كبرت كثيرا يا أبي".
ومؤخرًا أصدرت موسوعة أسبانية تضم 100 شاعر عربي بعنوان "الأنطولوجيا المعاصرة لمائة شاعر عربي"، احتل التركي الموقع رقم ثلاثة بين شعراء العرب المعاصرين.
ورغم أنه كسر تنظيرات الحداثة، التي أوشكت أن تحول الشعر إلى صنمٍ أصمّ، فقد كتب التركي القصيدة العمودية، وقصيدة التفعيلة، والنص النثري، والقصيدة الغنائية.
الحديث معه يأخذك إلى البدايات الأولى للشاعر، ويعرج بك للأماكن والشخصيات، والذكريات، ويقف بك في مفاهيم الثقافة، وطراوة الكلمة، وعمق المشاعر.
نص الحوار:
* ما أول نص شعري كتبته، أريد أن تذكره لنا وللجمهور؟
** ليس هناك شاعر سيخبرك عن أول نص كتبه، وإن تذكَّر النص من المستحيل أن يُطلع أحداً عليه، لأن أول نص يكون بمثابة الدرس الأول لتلميذ في الصف الأول، يمسك القلم ويبدأ في كتابة حروف الهجاء، بأصابع مهزوزة ومرتبكة.
والشاعر حين يكتب نصاً ممتازاً يقول: من هنا بدأت، ثم تمر فترة ويكتب نصاً أجود من السابق، ويعود ليقول: من هنا بدأت، وهكذا يظل الشاعر المتطور يرى أن كل نص متجاوز هو البداية، وهو النص الأول.
*محاولاتك لكتابة الشعر العمودي قليلة؟
**أنا أكتب القصيدة العمودية، وأكتب قصيدة التفعيلة، وأكتب النص النثري، وأكتب القصيدة الغنائية، والشعر ليس مرتبطاً بشكل أو إطار، فالشكل لا يعني شيئاً حين يكون الشعر متوفراً في النص، سواء كان عمودياً أو نثرياً، والقصيدة حين تأتي هي التي تختار شكلها وثوبها، ومن يظن أن الشعر مقتصرا على شكل معيَّن، فهو مغرم بالشكل، ويظن أن هذا الشكل فقط هو الوعاء الوحيد الذي سيجد بداخله الشعر، لأن نظرته إلى الشعر سطحية وشكلية، والشعر لا يمكن أن يطفو على السطح.
* تتكرر في نصوصك كثيراً كلمة مقبرة؟ لماذا؟
** ربما لأنني عشت تجارب موت عديدة، وشيَّعت أحباء وأصدقاء كثيرين إلى هذه المقبرة، والموت هو الحقيقة التي لا يستطيع أحد نكرانها، والمقبرة هي المكان الذي ينتظرنا، وسنصل إليها في آخر المشوار.
الموت بقدر ما أخافه، فقد حاولت الاقتراب منه للتعرف عليه، كي لا أفاجأ به حين يأتي، وكانت نتيجة هذه التجربة أنني قد كتبت كل شيء أريد قوله عن الموت في كتابي الثالث "كتاب الاحتضار"، فالاقتراب من الموت ومحاولة استكشافه يجعلك تشعر بلذة الحياة، وغموضها أيضاً.
**أين المرأة في أشعارك؟
* المرأة في قلبي، لأن حروف القصيدة لا تتسع لها.
* وأين الحب؟
* امتلأ الشعر العربي بقصائد الحب عبر مئات السنين، وأغلب ما يقال ليس سوى كلام مكرور، وقد قال كعب بن زهير المتوفَّى عام 24 للهجرة:
ما أرانا نقول إلا مُعاراً
أو مُعاداً من قولنا مكرورا
يحدث أن تقرأ قصائد غزلية، فتشعر أنك قد قرأتها منذ زمن طويل، لأننا نجيد التناسخ والتكرار.
*لماذا لم تقل "كبرت كثيراً يا أمي"؟ هل تحب أباك أكثر من أمك؟
** ليس هناك مفاضلة بين الأب والأم، ولكن أمي ما زالت على قيد الحياة، وقلت في عنوان كتابي: "كبرت كثيراً يا أبي"، لأن أبي رحل قبل ثلاثة وعشرين عاماً، وأردت أن أخبره بكل ما حدث بعد رحيله.. هذا الرحيل الموجع الذي جعلني أكبر كثيراً.
*ماذا يعني الحب بالنسبة لك؟
** الحب هو الترس الأهم في عجلة الحياة، وبدونه يفقد كل شيء معناه، وما يحدث اليوم من الحروب في عدد من الأقطار سببه غياب الحب، فحين يغيب الحب تظهر الأحقاد والخراب.
*هل عشت تجارب حب.. احكي لنا أروع تجربة؟
* ليس هناك تجارب، فقد تزوجت في سن المراهقة وعمري 17 سنة، أحب أسرتي وأولادي، وأحب صنعاء، وشهارة، والمحويت، وهذا هو الحب الذي أحتاج إليه لمواصلة الحياة.
* جسر شهارة التاريخي، كيف ساعدك لتصبح شاعراً؟
**جسر شهارة هو دهشة كبيرة، وملهم للكتابة، لكنه لم يساعدني كي أصبح شاعراً، فالشعر لا يأتي بمساعدة معْلَم تاريخي أو غيره، قد يكون هذا المَعْلَم التاريخي واحداً من ينابيع الإلهام الكثيرة للكتابة، لكنه لم يكن سبباً في كوني شاعراً.
*من هو أبوك الروحي؟
**من طفولتي كنت حريصاً على ألَّا يكون لأحد فضل عليَّ، وكان ذهني متوقداً ومتأملاً في كل ما حولي، وذات يوم حين كنتُ في الصف السادس ابتدائي كتب الأستاذ على السبورة عبارة: "من علمني حرفاً كنت له عبداً"، وكنتُ الوحيد في الفصل الذي تجرأت وقمت من على الكرسي وقلت للأستاذ: "هذه عبارة سخيفة ضد حرية الإنسان، ولن أكون عبداً لك مقابل حرف"، ومن يومها تركت حصة اللغة العربية حتى آخر العام، وقبل أن أخرج من الفصل قلت له: "ذات يوم ستلقاني في طريقك وستقول لي (يا أستاذ)، بدلاً من أن أقول لك أنا هذه الكلمة"، ولم أحب أن أذكِّره بقولي هذا حين التقينا بالصدفة بعد 24 عاماً في مكتبي بصحيفة الثورة، حين جاء وعانقني وسألني: كيف حالك يا أستاذ؟
وتعلمت قواعد النحو والصرف في البيت، كما تعلمت الكثير على يد والدي، الذي كان يعلمني أربعة دروس كل يوم: درس بعد الفجر، ودرس بعد العصر، ودرس بين المغرب والعشاء، ودرس قبل النوم، وحتى قبل دخولي المدرسة تعلمت من أبي الإملاء، والخط، والتجويد، والقرآن، والحساب، وإن كان هناك أب روحي، فهو والدي.
* ما هي أكلتك المفضلة؟
** ليس لي أكلة مفضلة، فأنا بسيط في مأكلي، وآكل الموجود، ولا أشترط وجود أي أكلة على المائدة، ما هو موجود فيه البركة.
* أرى أنك تحب "كبرت كثيراً يا أبي" أكثر من عملك الشعري الأول، على عكس المعتاد بأن الكتاب يحبون أعمالهم الأولى؟
** لم أقل إنني أحب "كبرت كثيراً يا أبي" أكثر من كتبي الأخرى، كل كتاب له تجربة خاصة، وقرب مختلف من القلب، وأحب كل كتبي، ولو لم أكن أحبها لما طبعتها، عملي الشعري الأول "اعترافات مائية" كُتب عنه أكثر من ستة عشر بحث ماجستير من جامعة صنعاء، وجامعة ذمار، وجامعة أمريكية بولاية ميتشجن، تحت إشراف الدكتورة وجدان الصائغ، والدكتور صبري مسلم.
أنا أعرف رأيك في النتاج الشعري في اليمن، وخاصة بين الشباب: "المشهد اليمني خلال هذه العقود يحتل الصدارة، أما عن السبب فهو وجود جيل شبابي امتلك شروط الإبداع، ولا أظن أن هناك مشهداً شعرياً عربياً شبابياً كما هو الآن في اليمن".
*من الشعراء الشباب لمن تقرأ أكثر ويروق لك؟
** أقرأ كل ما أراه أمامي في صفحة الفيس بوك الرئيسية، وأقرأ لكل الشعراء الشباب، بغض النظر عمَّن يروقني أو لا يروقني، أنا أقرأ المشهد بأكمله، وأتابع كل ما يكتبونه لكي أكون ملمَّاً بالمشهد الشعري، ومحيطاً بكل مفاصله وتفاصيله، ومراقباً لانتقالاته وتطوره.
*ماذا كنت ستفعل لو لم تكن شاعراً؟
** كنت سأحاول أن أكون شاعراً.
*ماذا منحك الشعر؟
** منحني الشعر روحاً ثانية، وعيناً ثالثة أرى بها ما لا يُرى.
* وماذا أخذ منك؟
** أخذ مني الكثير، لكنه منحني أكثر مما أخذ مني.
* كيف صنعت فرادتك، هل بدأت مقلداً متخبطاً ثم بقرار واعٍ منك قررت أن تلج هذا الباب الذي أفضى بك إلى عبدالمجيد التركي الآن؟
**لم أقلد أحداً، منذ صغري كنت أشعر أنني مختلف عن الأطفال الذين هم في سنِّي، ولم يحدث أنني انبهرت بأي أحد في طفولتي، فقد كنت أؤثر في من حولي بالحكايات التي كنت أقصها لهم، وباختلاقات كثيرة، فأراهم يرفعون حواجبهم من الدهشة، وكنت أؤمن بنفسي وبمقدرتي بأنني سأكون فتىً يُشار إليه بالبنان. ولا بد أن أكون أنا فقط.
*ماذا بينك وبين كلمة "لا مندوحة" لماذا تكرهها؟
**كلمة "لا مندوحة"، لا يستخدمها سوى القليل في كتاباتهم، وما لا يصلح للاستخدام اليومي والقارئ العادي لا أحب أن أكتبه.
*تعاني من حساسية من بعض الأسماء والألفاظ اللغوية، كيف اكتسبت هذه الحساسية؟
** هناك مفردات عفا عليها الزمن وصارت تشبه الدجاج المجمَّد، ولديَّ حساسية من التصنُّع والتظاهر بالعمق والثقافة وإيراد المفردات العويصة في النصوص لإيهام القارئ بأننا نفهم كل شيء، كما أنني لا أحب النصوص المليئة بمفردات تضطر القارئ للرجوع إلى المعاجم والقواميس لمعرفة معانيها.
*أراك مشدوداً بحبل وثيق إلى طفولتك، أغلب صورك الشعرية هي من مخزون الطفولة؟
**الطفولة منجم مليء بالذكريات، وبداية تكوُّن الوعي، ولا بد أن نستفيد منها شعرياً وروائياً وحياتياً، باعتبارها حجر الأساس التي جعلتنا ما نحن عليه اليوم، فما الذي سيتكئ عليه الشاعر- سوى الفراغ- إن لم يكن لديه مخزون من طفولته يغترف منه ويوظفه شعرياً، ويستفيد من هذا المخزون في حياته، ويعيد صياغته كما يجب أن يكون؟
* لديك خيال سينمائي رهيب، عوضاً عن قدرتك على اقتناص اللحظات التعبيرية الأكثر دهشة والتفاصيل الدقيقة المعبرة، خاصة تلك التي تنتمي لموروثنا الخاص كيمنيين، لماذا لا تكتب رواية كما فعل ماركيز، أو قصصاً قصيرة كالتي كتبها يوسف إدريس؟
*جربت كتابة القصة في آخر التسعينيات، وكتبت سبع قصص كانت جيدة، لكنني وجدت نفسي في الشعر بكل أشكاله.. قد أكتب (رواية شهارة) ذات يوم، لكنني لن أتحول إلى روائي.
**الشعر أساسه التأمل أولاً، والتقاط التفاصيل التي يراها الناس هامشاً فتتحول إلى متن في سياق شعري يجعل القارئ يفتح فمه من الدهشة، لأنه يرى هذه التفاصيل ولا يلتفت إليها.. وهذه هي مهمة الشاعر.