[ يعد المال السياسي من أكثر العوامل تأثيرا في المشهد اليمني ]
يبدي كثير من المراقبين للمشهد السياسي والعسكري اليمني استغرابهم من التحولات الكبيرة والمتناقضة في المواقف للعديد من التيارات السياسية والدينية وبعض الشخصيات السياسية البارزة وبعض الدعاة، خاصة منذ بداية عملية "عاصفة الحزم" وحتى الآن، وعند البحث عن "كلمة السر" في ذلك، سنجد أن هذه التحولات ليست ناجمة عن تغير في القناعات، أو أنها مراجعات سياسية فرضتها الظروف الطارئة والمصلحة الوطنية العليا، وإنما كانت نتاج التأثير الكبير لما يمكن وصفه بـ"المال السياسي" في المشهد السياسي والعسكري في اليمن.
يعد المال السياسي من أكثر العوامل تأثيرا في المشهد السياسي اليمني منذ عقود، يستوي ذلك في زمن السلم وفي زمن الحرب، بل ففي زمن الحرب يكون تأثير المال أكثر من تأثير القوة العسكرية، وأعتى قبيلة يمنية محاربة قد يصعب إخضاعها بالسلاح إلا أنه سيكون من السهولة إخضاعها بالمال، حتى صار الأمر وكأنه من ثوابت الحياة السياسية في اليمن.
- المال والحل الأمني
برز دور المال السياسي الخليجي في اليمن بقوة منذ بدء عملية "عاصفة الحزم" في 26 مارس 2015 وحتى الآن، وتمكن هذا المال من تحقيق أهداف السعودية والإمارات في اليمن بطريقة ناعمة وسلسة أفضل مما لو أرادت الدولتان تحقيق مشروعهما في البلاد بالقوة العسكرية، ساعد على ذلك حالة الفقر المدقع التي تشهدها البلاد، وحاجة الكثيرين للمال، سواء كانوا قيادات سياسية أو دعاة ووعاظ أو مواطنين بسطاء.
تعود قصة تأثير المال السياسي، الذي رافق عملية "عاصفة الحزم"، إلى أواخر العام 2014، حينها كانت الاضطرابات السياسية في بلدان الربيع العربي بفعل الثورات المضادة قد أثرت على طريقة تفكير حكام دولتي السعودية والإمارات، خاصة بعد النجاح الكبير الذي حققه المال السياسي للدولتين في الانقلاب العسكري في مصر على أول رئيس مدني منتخب في تاريخ البلاد الدكتور محمد مرسي.
حينها كان العديد من أبناء القبائل اليمنية في شمال الشمال قد بدؤوا بحشد سلاحهم، وانضم جزء منهم إلى جماعة الحوثيين التي تعمدت استفزاز السعودية بتصريحات عدائية، بينما البعض الآخر حشدوا سلاحهم للقتال ضد الحوثيين، وأغلبهم من المحسوبين على حزب الإصلاح، الذي تنظر له السعودية والإمارات كامتداد فكري وتنظيمي لحركة الإخوان المسلمين المصرية التي دعمت الدولتان الانقلاب العسكري ضدها.
وبما أن بعض مشايخ قبائل شمال الشمال في اليمن ظلوا على مدى سنوات يستلمون مخصصات مالية من السعودية، عبر ما كان يسمى "اللجنة الخاصة"، التي كان يرأسها الممسك بالملف اليمني الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود منذ تأسيسها بعد اندلاع ثورة 26 سبتمبر 1962 وحتى وفاته في 22 أكتوبر 2011، إلا أن السعودية يبدو أنها قررت إيقاف تلك المخصصات المالية، علما بأنه كان الغرض منها استمالة المملكة لتلك القبائل لتأمين حدودها الجنوبية.
لكن تلك الأموال كانت تذهب لشيوخ القبائل ولا يصل شيء منها للمواطنين، ولعل ذلك ما يفسر عدم ترسخ النفوذ السعودي في أوساط تلك القبائل، التي انضم الكثير من أبنائها للقتال في صفوف جماعة الحوثيين رغم التصريحات العدائية لقيادات الجماعة ضد السعودية، وكانت السعودية ترى ذلك انقلابا عليها، لكنه في الحقيقة كان انقلابا من المواطنين على مشايخهم، خاصة بعد أن بدأ المال السياسي الإيراني يتدفق إليهم عبر الحوثيين، بينما المال السياسي السعودي يذهب للمشايخ ولا يصل للمواطنين منه شيء.
وكخطوة انتقامية، يبدو أن السعودية قررت إيقاف المخصصات المالية التي كانت تصرفها عبر "اللجنة الخاصة" للكثير من مشايخ قبائل شمال الشمال، وصرح مسؤول سعودي لوكالة أنباء دولية -طلب عدم ذكر اسمه- بأن الحل في اليمن يجب أن يكون أمنيا. وهو ما بدا حينها وكأنه تراجع عن إنفاق الأموال والتلويح بالقوة العسكرية لحفظ أمن المملكة، بعد تزايد التصريحات العدائية ضدها من قبل الحوثيين، خاصة بعد أن أجروا مناورات عسكرية بالقرب من الحدود السعودية مع اليمن في 12 مارس 2015، ثم اندلعت عملية "عاصفة الحزم" بعد نحو أسبوعين من تلك المناورات.
- تدفق المال السياسي
بعد اندلاع عملية "عاصفة الحزم"، ظهرت دعوات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، من قبل ناشطين ومواطنين يمنيين، تطالب السعودية والإمارات بأن تنفقا جزءا من تكاليف الحملة العسكرية في اليمن كدعم للقبائل في شمال الشمال لاحتوائها وتحريضها على القتال ضد الحوثيين، لكن هذه الدعوات لم تجد آذانا صاغية، وتحرك المال السياسي هذه المرة، وبكثرة، نحو جنوب البلاد، بعد أن كان مقتصرا على قبائل شمال الشمال، واعتُمدت طريقة جديدة لتوزيع المال، على أن يكون تأثيره فعالا على الأرض، من خلال إنشاء كيانات وجماعات مسلحة تأتمر بأمر الدولتين أو إحداهما وتناهض السلطة اليمنية الشرعية.
تزامن ذلك مع استقطاب سياسي حاد، طال عددا من الموالين للرئيس الراحل علي صالح، كما طال قيادات بعض التيارات والأحزاب السياسية والجماعات الدينية المتطرفة، وأسهم ذلك بشكل كبير في تمزيق وحدة الصف الجمهوري وتمزيق الوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي، والغرض تفكيك وهدم القواعد الاجتماعية والسياسية المترسخة في المجتمع، ثم إعادة هندسته من جديد، بما من شأنه تهيئة البيئة المناسبة للدولتين لكي تحققا أهدافهما في اليمن.
كما أن تأثير المال السياسي الخليجي هدم كل التحالفات السياسية وغير السياسية داخل اليمن، وزرع العداوة والبغضاء بين مختلف القوى السياسية اليمنية، رغم أن كل هذه القوى مؤيدة لتدخل التحالف العربي في اليمن، ومؤيدة للسلطة الشرعية في حربها على الانقلابيين الحوثيين، ووصلت الخلافات إلى داخل السلطة الشرعية ذاتها، وأسس التحالف عدة شبكات إعلامية متخصصة في التفريق بين مختلف القوى السياسية اليمنية، وزعزع الثقة فيما بينها، ومزقها كل ممزق.
- محطات المال السياسي
كان للمال السياسي دوره الكبير في مختلف محطات التحول الكبرى في تاريخ اليمن المعاصر، خاصة بعد اندلاع ثورة 26 سبتمبر 1962، أثناء الحرب بين الجمهوريين والملكيين، حينها اشتهرت قبائل شمال الشمال بأنها تمسي مع الجمهورية وتصبح مع الملكية، بعد أن برز دور المال السياسي، والذي كان يقدم من السعودية تحديدا لقبائل شمال الشمال، من أجل استمالتها للانضمام إلى الملكيين في حربهم مع الجمهوريين، واستمر هذا المال بشكل متواصل حتى قبيل اندلاع عملية "عاصفة الحزم"، وكان الهدف منه تأمين المملكة لحدودها الجنوبية مع اليمن، واكتساب نفوذ في أوساط تلك القبائل ليكون وسيلة ضغط على السلطات اليمنية إذا اقتضت الحاجة.
ثم برز دور المال السياسي بقوة في البلاد بعد إعادة تحقيق الوحدة الوطنية عام 1990، وكان له دور في الصراعات بين شريكي الوحدة (المؤتمر والاشتراكي)، والتي انتهت بحرب صيف 1994. بعدها استخدم الرئيس الراحل علي عبد الله صالح المال السياسي لترسيخ نفوذه السياسي والعسكري، وبالتالي التمهيد لمشروعي التوريث والتأبيد. فمن خلال المال السياسي استقطب العديد من السياسيين والإعلاميين من حزبي الإصلاح والاشتراكي، وفرخ الحزب الناصري إلى ثلاثة أحزاب وحزب البعث إلى حزبين، وأسكت بعض الأصوات المعارضة من خلال الرواتب التي كانت تصرف من الرئاسة مباشرة بدون أي عمل تحت مسمى "الإعاشة الشهرية".
كما أن المال السياسي لسلطة علي صالح كان له دور في مختلف الأزمات التي ظهرت في السنوات الأخيرة، مثل ظهور الحراك الجنوبي المطالب بالانفصال في الربع الأول من عام 2007، حينها كانت محافظة الضالع من أكثر من المحافظات الجنوبية تشهد مظاهرات للحراك الانفصالي، بينما محافظة صعدة تشهد معارك شرسة بين قوات من الجيش وجماعة الحوثيين.
وإزاء كل ذلك، عمد علي صالح إلى تشكيل ما سماها "هيئات الدفاع عن الوحدة" من الجنوبيين الذين استقطبهم بالمال السياسي، ثم أراد امتصاص مطالب الانفصال من خلال تجنيد بعض المتظاهرين في الجيش، وكانت البداية من الضالع، حيث تم تجنيد العديد من المتظاهرين الانفصاليين في قوات الجيش، ثم الزج بهم مباشرة في المعارك في صعدة. وخلال مدة قصيرة، كان بعض المطالبين بالانفصال يعودون فوق الأكتاف وهم قتلى أو جرحى من معارك صعدة، والسبب تأثير المال السياسي.
وبعد اندلاع ثورة 11 فبراير 2011، وما تلاها من أزمات إقليمية ناتجة عن شراسة الثورات المضادة لثورات الربيع العربي، تمكن المال السياسي الإيراني من استقطاب بعض فصائل الحراك الجنوبي قبل عملية "عاصفة الحزم"، وبعدها تمكن المال السياسي الإماراتي من استقطاب نفس الفصائل.
كما تمكن المال السياسي الإيراني من استقطاب بعض قبائل شمال الشمال في لحظة واحدة، بعد أكثر من خمسين سنة من تدفق المال السياسي السعودي إليها.
وما زال سوق السياسية في اليمن مفتوحا على مصراعيه يخضع للعرض والطلب وزيادة السعر، وما زال المال السياسي وحده القادر على قلب الأوضاع في اليمن رأسا على عقب، وتأثيره بشكل عام أكثر من تأثير القوات العسكرية.
فمثلا، في بداية الحرب وعملية "عاصفة الحزم"، تم طرد كل جندي موالي لعلي صالح وعائلته من عدن ومحيطها، وفي زمن المال السياسي كانت عدن هي المكان الذي تتأسس فيه قوة جديدة موالية لعائلة علي صالح بعد أن قتله الحوثيون في أحداث ديسمبر 2017 في صنعاء، يقودها نجل شقيقه طارق محمد عبد الله صالح.
ومن عدن انطلقت تلك القوة الجديدة أمام مرأى ومسمع الجنوبيين أملا في استعادة ملك مفقود، كان قبل ذلك بسنوات قليلة السبب في تعاسة الجنوبيين وجعلهم يكرهون الوحدة ويكفرون بها.