[ معلمو اليمن.. معيشة صعبة ومنحة لا تغطي مصاريف الشهر ]
سقط المعلم محمد النعيمي (42 عاماً) مغشيًا عليه في أحد فروع الكريمي للصرافة بصنعاء، قبل أيام قليلة، حين اكتشف أن حافزه النقدي المقدم من اليونسيف لا يتجاوز عشرة آلاف ريال، في حين كان يأمل أن تُصرف له الـ 50 دولاراً كاملة، وقد كان ينوي إنفاق المبلغ لتوفير متطلبات رمضان التي عجز عن جلبها لأسرته قبل حلول الشهر كما يفعل الكثير من الناس. لكنه يقول إنه لم يكن يملك المال حينها، وظل يعقد الآمال على الحافز النقدي المُنتظر ليرفد أسرته ويفي بالوعد. وما إن وصل اعتماده الشهري من اليونيسف حتى هرع إلى الكريمي، وحين ناوله موظف البنك المبلغ المهضوم انهار الرجل من الصدمة، وقد وجد آخر آماله تتبخر أمامه، وهو المثقل بديون سابقة واستحقاقات جديدة تؤرقه، وللتو مُنيٙ بخذلان إضافي، تمثل في اقتطاع اليونيسف قرابة الثلثين من الحافز النقدي الخاص به، وهي المنظمة المشرفة على المنحة النقدية المقدمة من السعودية والإمارات، كاستحقاق متأخر للمعلم اليمني الذي فقد راتبه بسبب الحرب.
ضحايا المعايير
يؤكد النعيمي أن استمارة التحقق خاصته، والتي اعتمدتها اليونيسف لتقييم أداء المعلمين ومدى التزامهم بالدوام المدرسي، خالية من الغياب، ومن المفترض أن يصله المبلغ كاملاً، لكنه تفاجأ بالمبلغ خصم منه الثلثين. ويوضح أن الأمر كان صادماً بالنسبة له، فانهار من فوره، وقد استحال المبلغ بين يديه إلى عشرة آلاف فقط.
يرى النعيمي أنه تعرض للظلم، نتيجة لاختلال معايير منظمة اليونيسف التي اتهمها بممارسة الاحتيال على المعلمين حد وصفه، وقد حمّلها مسؤولية ما أسماه التلاعب بالحوافز النقدية، منوهاً بأن هذه المنظمة تخون مهمتها والأهداف النبيلة التي تأسست عليها.
حادثة النعيمي تلخص حال عدد كبير من المعلمين اليمنيين، الذين تعرضت مخصصاتهم للخصم غير المبرر، الأمر الذي حدث في عدة محافظات يمنية، خصوصاً صنعاء، وحجة، وذمار، وإب، وتلقاه المعلمون بإحباط شديد، سيما في هذه الفترة الحرجة الممثلة بشهر رمضان الذي يحرص اليمنيون فيه على ترميم كرامتهم وتحقيق الاكتفاء قدر الإمكان، وهو خيار فقده المعلمون بعد خذلان اليونيسف لهم، وتلقيهم صدمة من موضع الأمل الذي لاح لهم مؤخراً، والذي تمثل في هذه المنظمة التي لوحت لهم بانفراجة ثم عادت لتخصم من حوافزهم بشكل تعسفي ألحق الضرر بالكثير منهم.
تصريحات
من ناحيتها أعلنت اليونيسف -في آخر تصريح لها في صفحتها على فيسبوك- أنها تتدارس الشكاوى التي تلقتها من المعلمين. وقالت في التصريح: "الذين حُرموا من حوافزهم أو جزء منها رغم استيفائهم لشروط التحقق المعتمدة، سوف يتمكنون من تحصيل المتأخرات في دورة الصرف الثالثة". وقد استبشر المعلمون بتصريح المنظمة، الذي يتضمن إيحاءً بوجود خطأ في الإجراءات الاحترازية خاصتها. وعلى الرغم من ذلك فقد تلقى بعضهم الأمر بمرارة وسخرية، رافضين فكرة التعويض الآجل، وأوضحوا بأنهم يحتاجون مبالغهم هذا الشهر أكثر من أي وقت آخر، وفق تعبيرهم.
وكانت المنظمة قد أشارت -في بيان سابق لها- إلى أن الحوافز التي تُدفع للمعلمين كل دورة تُصرف بناءً على نجاح عملية التحقق، والتأكد من حضور المعلمين في المدارس خلال الأشهر المحددة، وبناءً على هذا التقييم أوضحت أنه لن يتم صرف نفس المبلغ للجميع، في إشارة منها إلى وجود تباينات في حجم المبالغ، ونصيب كل معلم.
اعتراضات
ويرى البعض أن هذا الإجراء مخالف لطبيعة المنحة النقدية المقدمة من السعودية والإمارات لصالح المعلمين الذين انقطعت رواتبهم منذ ثلاثة أعوام في المحافظات التي يسيطر عليها الحوثيون.
وفي هذا السياق تعتقد الأستاذة مليحة الأسعدي أن طبيعة المنحة لا تستوجب هذه الإجراءات التي تتبعها المنظمة، لأنها هبة ومكُرمة وليست استحقاقًا رسميًا أقرته الحكومة.
وتقول: "هذه مجرد مساعدات لإنقاذ المعلمين، وهي لا تعادل عُشر حقوقهم المهدورة".
وتشير الأسعدي -وهي شاعرة- إلى أن الخصميات التي اقتطعتها اليونيسف من مبالغ المعلمين وفقاً لمعايير التحقق التي حددتها سيكون لها مرتجعات. وتتساءل الأسدي باستغراب: "أين تذهب تلك المرتجعات إذن؟".
وهي ترجّح احتمال أن هذه المبالغ المرتجعة من إجراءات الخصم، ربما قد تُصرف لصالح المعلمين الجدد، الذين تم توظيفهم مؤخراً من قبل حكومة صنعاء كبدلاء للمعلمين القدامى الذين أضربوا عن التدريس بسبب انقطاع رواتبهم، ضمن موجة الإضراب التي أعلنتها عدة نقابات بصنعاء خلال الثلاثة الأعوام الأخيرة.
اشتراطات حوثية
وكان من المقرر أن تعتمد اليونيسف في عملية الصرف على العدد الرسمي للمعلمين في كشوفات وزارة التربية والتعليم اليمنية خلال العام 2014، بيد أن الحوثيين اعترضوا على هذا الأمر، وقدموا للمنظمة كشوفات أخرى خاصة بوزارة التربية والتعليم التابعة لهم، والتي بدورها أقرت بأنها استبدلت المعلمين المنقطعين بآخرين، ووظفت أعداداً جديدة.
توضح الأسعدي أن بعض المعلمين هجروا التدريس بعد انقطاع رواتبهم، وارتبطوا بأعمال أخرى كي يتمكنوا من إعالة أسرهم. وهي ترى أن حرمانهم من الحوافز بسبب تغيُبهم أمر غير عادل، لأنهم اضطروا إلى هجر وظائفهم، ولم يكن في وسعهم الاستمرار.
وتقول: "ربط المنحة بأيام الدوام إجراء خاطئ، لأن المعلم داوم ثلاث سنوات دون أي منحة، لذا فمن حقه أن يحصل عليها اليوم كاملة دونما استقطاعات أو حرمان، لأن هدف المنحة إنساني بحت"، منوهة إلى أن تحوّل المنحة من مساعدة إنسانية إلى منحة مشروطة خاضعة لقانون "النقد مقابل العمل" هو أمر لا يتفق مطلقا مع التوجه الأساسي لصرفها.
مبالغ ضئيلة
من ناحية أخرى تشير الأسعدي إلى أن الحوافز النقدية المعتمدة لهذه المنحة ضئيلة، ولا يمكنها أن تُغطي حجم النفقات الشهرية للمعلم، وهذا يعني أنها ليست كافية ليهجر المعلمون أعمالهم البديلة ويعودون للتدريس، لذا فهم معذورون، ومن الخطأ حرمانهم من المنحة لهذا السبب.
وتواصل: "إذا اعتمدت اليونيسف المرتجعات المتراكمة من عملية الخصم، وكذلك من المخصصات المالية للمعلمين الذين حُرموا منها بسبب انقطاعهم عن التدريس؛ إذا اعتمدت هذه المرتجعات لصالح المعلمين الجدد الذين عُيّنوا بشكل غير قانوني، فإنها -اليونسيف - ترتكب خطأً فادحًا".
مشكلة حقوقية
وتضيف: "هذه مشكلة حقوقية يجب التوقف عندها، لأن اليونيسف بتطبيقها لهذه الإجراءات إنما تضع نفسها في صف منتهكي حقوق المعلمين"، في إشارة إلى سلطة صنعاء التي قطعت الراتب عن المعلم، ورغم تسببها بالمشكلة فإنها لم تقدّر الخيار الاحتجاجي له حين لجأ للإضراب، ولاحقًا اضطر للعمل في مجالات أخرى لكي يتمكن من إعالة أسرته.
تختتم الأسعدي بالقول إن اليونسيف بهذا الفعل إنما تشرّع لعملية تكميم الأفواه التي طالبت بحقها المكفول في الوظيفة العامة، وهي ترى أن هذا الأمر يفتح مجالا أوسع للفساد.
ظروف صعبة
ويكابد المعلمون اليمنيون ظروفا معيشية صعبة منذ انقطاع رواتبهم قبل ثلاث سنوات، حيث اضطر بعضهم إلى ترك التدريس والتوجه صوب أعمال أخرى، فعملوا في المطاعم والمخابز وفي محلات تجارية مختلفة، وذلك من أجل إعالة أسرهم.، بينما لجأ آخرون لتأسيس مشاريع صغيرة، كالمعلمات اللاتي انطلقن من بيوتهن في صناعة الأكلات الشعبية والمعجنات، كالسبايا والكعك، ثم شرعْن في تسويق منتجاتهن تلك في وسائل التواصل الاجتماعي، ونجحن في اجتذاب الزبائن. وبحسب الأستاذة أروى العُلوي، التي عملت في هذه الفكرة، وهي معلمة في مدرسة نسيبة للبنات بصنعاء، فإنها استطاعت توفير دخل بديل لأسرتها من هذا المشروع الصغير الذي اتخذ شكل توصيل الأكلات إلى المنازل.
أما الأستاذ طارق غراب فقد لجأ للعمل في البناء قبل عامين، لكنه لم يتخل عن مهمته في التدريس، وهو يقوم بالتوفيق بين العملين، ويرى أنه مدين في حياته لمهنة البناء التي كان قد تعلمها من أخيه الأكبر قبل أن يتوظف في السلك التربوي.
يقول غراب لـ"الموقع بوست": "أجد مشقة في التوفيق بين التدريس والبناء، لكنني مضطر للقيام بكلا المهمتين، تدفعني للأولى مسؤوليتي تجاه الطلاب، ويدفعني للثانية التزامي تجاه أسرتي". يبدو غراب مرتاحا لما يقوم به، لكنه من ناحية أخرى لا يخفي القلق الذي يزاوله حيال العملين معاً.
ويواصل: "لا أحصل على فرص عمل كثيرة في البناء، بسبب ندرة مشاريع التعمير في صنعاء". ويشير إلى أنه يعمل بشكل غير منتظم، وهذا مبعث قلق كبير بالنسبة له، ذلك أنه لا يضمن تحصيل مادي يغطي احتياجات أسرته لشهر واحد، حد وصفه. وإذا ما توفر مبلغ الشهر يقول إن سؤالا آخر يقفز إليه: ماذا عن الشهر القادم؟
وحول الحافز النقدي الذي تلقاه من اليونيسف، يقول غراب إنه أحد الضحايا الذين تعرضوا للخصم التعسفي، وأن الـ50 دولاراً، مبلغ المنحة المقرر، لا يُسمن ولا يغني من جوع، لكنه عزاء أخير للمعلم الذي فقد الحيلة في الحياة.
ويوضح أن هذا العزاء الضئيل لم يصل كاملاً. ويواصل: "يستكثرونه علينا، ويحاسبونا عليه وكأنه اعتماد حكومي دائم".
يقول غراب إنه كان ينوي دفع إيجار شقته بهذا المبلغ، لكنه يعزي نفسه بالقول: "سنؤجل الدفع للشهر القادم"، ويختتم بتهكم: "كيف لي أن أقنع مالك العمارة الآن؟".