[ تزايد ظاهرة الانتحار في أوساط الشباب باليمن جراء الحرب ]
لم يمض وقت طويل على حادثة انتحار الشاعر الشاب فيصل فهد المخلافي، التي حدثت داخل جامعة صنعاء، في السابع من فبراير الماضي؛ حتى تبعتها حادثتي انتحار مماثلة خلال الشهر ذاته، كانتا لشابين في مقتبل العمر، ينتميان لمحافظة إب "وسط اليمن"، وهما حسين كامل الذي انتحر في منتصف فبراير، ومحمد مهدي الذي أنهي حياته كذلك في أواخر أيام الشهر.
ولا تنفصل أسباب الحوادث الثلاث عن تداعيات الوضع الراهن في البلد المتمثل في أزمة الصراع والحرب المندلعة منذ سبع سنوات بين جماعة الحوثي والحكومة اليمنية المدعومة من التحالف العربي، وهي أزمة أفرزت تداعيات اجتماعية واقتصادية كارثية ألقت بظلالها الثقيلة على حياة اليمنيين، لا سيما الشباب منهم، الفئة الأكثر حساسية تجاه الحرب والأقل احتمالا للآثار السلبية الناجمة عنها.
هل هي أزمة أمل؟
إن انحسار الأمل داخل المجتمعات في المراحل التي تستفحل فيها الصراعات في البلدان أمر مفهوم ومبرر في علوم النفس والاجتماع، فخلال الأزمات العاصفة يحل اليأس وتتداعى القيم الثقافية والدينية وكثير من يقينيات الحياة لدى الناس، لا سيما الشباب، إذ يحدث ذلك بفعل تضاعف الألم واستفحال الشر اللذان يستدعيان إلى الأذهان التساؤلات الفلسفية المعقدة بشأن الحياة والخالق والوجود والمصير والخير والشر، التي تكون كامنة في أوقات السلم والدعة، بينما تبرز للسطح خلال الأزمات الكبيرة جالبة الشك ومحدثة تحولات فكرية ونفسية كبيرة في أذهان الشباب.
تلك التحولات التي تترافق مع الصدمات والضغوطات المالية والمعيشية ومع الاضطرابات النفسية كالاكتئاب والفصام والقلق واليأس؛ تؤثر كليا على مسار الأفراد في الحياة، الأمر الذي يدفع بالكثير من الشباب إلى الانسحاب من الحياة والسقوط في الأفكار والسلوكيات المُمرضة، ليبرز الانتحار في خضم ذلك كفكرة منقذة من عذاب الحياة، وذلك تحديدا ما يحدث اليوم في اليمن بفعل اشتداد الأزمة وتضاعف الخناق لدى الناس وغياب فرص العمل والحياة أمام الجيل الحالي من الشاب، الأمر الذي يدفع إلى اللجوء لسلوك يائس كالانتحار للخلاص من الحياة وقد غدت عبئا لا يطاق، ومن هنا يمكننا فهم حوادث الانتحار المتزايدة في اليمن، فثمة علاقة سببية وثيقة بين الكوارث، الحروب وأزمات الصراع وبين الانتحار.
إفرازات الحرب
ومؤخرا، تزايدت أعداد الانتحار بين الشباب اليمني إلى حد مقلق، إذ ترافقت أغلب الحالات التي حدثت خلال السنوات الخمس الأخيرة بأوضاع يأس أقصى لدى الشباب، هذا إلى جانب ارتباطها بعوامل أخرى، مادية ونفسية وفكرية ترتبط بصلة كبيرة بأزمة الحرب.
ويعد اليمن الثالث عربيا بعد مصر والسودان في معدلات الانتحار، إذ يشهد نحو 2335 حالة انتحار في كل عام، وفق آخر إحصائية لـ"منظمة الصحة العالمية" بشأن ظاهرة الانتحار في العالم، التي أكدت توفر البيئة المُشجعة على الانتحار في دول الشرق الأوسط، ومنها اليمن، بفعل الحروب والصراعات المتفاقمة.
ويؤكد المعالج في مركز الإرشاد الأسري بصنعاء، رشيد القُليصي، في تصريح لـ"الموقع بوست"، وجود ارتباط سببي وثيق بين الانتحار والفشل الاجتماعي والاعتلالات النفسية، كالاكتئاب، والفصام، واضطراب ثنائي القطب، مشيرا إلى أن المُنتحر يعيش بالضرورة قبل إقدامه على إنهاء حياته حالة متفاقمة من اضطراب نفسي ما، وهو ما نجده على سبيل المثال لدى فيصل المخلافي، الذي -بحسب تصريح لأحد أقربائه- كان يعاني من حالة اكتئاب ويتعاطى أدوية مهدئة.
يقول القليصي إن الحرب القائمة في البلد تسببت في مضاعفة أعداد المصابين بأمراض نفسية، فانعدام فُرص العمل والحياة يدفع بالكثير من الشباب إلى الإحباطات القاتلة التي تقود إلى الانهيار الذاتي والوقوع في العديد من الأمراض النفسية التي تؤدي بدورها -في بعض حالات الإصابة المتطرفة- إلى الانتحار، معربا عن أسفه بشأن قلة الوعي الاجتماعي حيال الأمراض النفسية وخطورتها على الصحة العامة للناس.
تحوّلات فكرية ونفسية
من ناحية أخرى، يرتبط الانتحار بعوامل فكرية تتعلق بانهيار اليقينيات الدينية وشيوع الإلحاد بين الشباب بفعل التداعيات الثقافية للأزمة التي دفعت بالكثير من الشباب إلى تغيير قناعاتهم الدينية والحياتية بشكل عام، بسبب من "مشكلة الشر والألم" التي تحضر في الحروب القائمة كما يحدث في اليمن، وتثير العديد من التساؤلات لدى الشباب بشأن وجود "إله خالق" من عدمه، وجدوى الشر، والأسئلة الفلسفية الأخرى للحياة، بحسب إفادة الدكتور عبدالله القيسي.
يقول القيسي -المفكر والباحث في الفكر الإسلامي- في تصريح لـ"الموقع بوست"، إن ثمة صلة مباشرة بين أزمة الحرب وتزايد أعداد الانتحار في اليمن. ويربط مسألة الانتحار بتغيُّر نظرة الشباب ورؤيتهم تجاه الحياة عن ذي قبل بفعل الانفتاح المعرفي الذي أتاحته وسائل التواصل الاجتماعي والنقاشات الفلسفية التي راجت عليها مؤخرا بفعل استفحال الشر في الواقع اليومي المعيش للناس نتيجة الحروب والصراعات المتفاقمة في اليمن والمنطقة العربية عموما، وتفشي الفوضى والمعاناة والألم، إذ تفرز تلك الاضطرابات الكثير من التساؤلات بشأن الحياة وكذا الجدالات الفلسفية الخطيرة التي تقفز إلى الأذهان الشابة التي تخوض فيها دون تبصر، فلا تعثر على إجابات شافية، الأمر الذي يفضي إلى بروز الشك وفقدان الإيمان بوجود خالق والقول بعبثية الحياة واليأس من إمكانية تحقق أي خلاص.
ويرى أن كل ذلك أحدث زعزعة في اليقينيات الدينية لدى الشباب ودفعهم إلى تبني وجهات نظر تتعارض مع الرؤية الإيمانية للحياة، كالشك والإلحاد واللا أدرية، وذلك تحوّل يخلق اضطرابات فكرية ونفسية تساهم في تعزيز السلوك الانتحاري بين الشباب، هذا إلى جانب تلاشي الكابح العقابي المتمثل في حرمة قتل النفس، الذي كان يوفره الدين.
الإلحاد والانتحار
يقول القيسي: "لا يمكن أن أتغافل عن وجهتي نظر تقول إحداهما لا يوجد إله ولا تدخل إلهي ولا حياة بعد الموت، وإنما هي هذه الحياة فقط فإنما نسعد فيها أو ننهيها، ولا شر في أن ينهي الإنسان حياته ما دامت تعيسة، فلا هو مجرم بحق نفسه ولا هو محاسب بعد الموت على ذلك، وبين وجهة نظر تقول هناك إله يرانا ويراقبنا، ويحاسبنا على أفعالنا، وينهانا عن قتل أنفسنا مهما حصل، وأن حيواتنا أمانة لدينا حتى يأتينا الموت، وأننا بعد الموت نحاسب، وأن هناك حياة أخرى قد تعوضنا عن شقائنا وتعاستنا وعذابنا في هذه الحياة".
لكنه يشدد -بصرف النظر عن مدى تماسك إحدى الرؤيتين عن الأخرى- على أهمية وضرورة الرؤية الإيمانية لوجود الإنسان، فهي تنعكس بالنفع على حياته وتمنح وجوده معنى وقيمة وهدف، مستدلا بتوصيات علماء النفس الذين يشددون على ضرورة عدم هدم الدين حتى لو لم يتم الاقتناع به، لما يتسببه الهدم من شعور بالتيه والضياع لدى الناس.
وبناء على ذلك، فإن الإيمان بالخالق يغدو -بحسب القيسي- ضرورة حياتية للبشر، فهو يضفي معنى للحياة وطمأنينة للنفوس وتماسكا لأواصر المجتمع، على عكس الإلحاد الذي يهدم كل معاني الحياة ويكل الإنسان إلى ذاته المحدودة، ويجتره صوب الانتحار، لأن الإنسان -بدون الإيمان- لا يقوى غالبا على الصمود في وجه الضغوط الحياتية والتحديات الكبيرة التي تعترض وجوده.
الاكتئاب والانتحار
على أن الإلحاد كموقف فكري -بحسب المعالج النفسي القليصي- لا يؤدي إلى الانتحار بمعزل عن العوامل الأخرى التي تتمثل في الأمراض الذهانية كالاكتئاب والفصام، إذ تلعب الأخيرة الدور الحاسم في دوافع الانتحار، مؤكدا ارتباط أغلب حالات الانتحار التي حدثت في اليمن خلال الفترة الأخيرة بالاكتئاب الذي بدوره -وفي أغلب حالاته باليمن- كان نتيجة أزمات اجتماعية ومالية مرتبطة بالحرب القائمة والصراع، لذا فإن تلك الانتحارات عكست لدى الشباب معاناة نفسية ويأس من الحياة وغياب للأمل والإيمان، وهي بذلك تعبّر وبدقة عن واقع الحياة خلال المرحلة الراهنة المختنقة بالأعباء واليأس والفشل والخذلان.
لا يمكن اعتبار حوادث الانتحار المتزايدة خلال السنوات الأخيرة في اليمن نماذج لإخفاقات فردية فحسب، بل إنها في الواقع مؤشرات تدل على تداع جمعي يحدث في المجتمع، فكل حالة انتحار تشير إلى احتضار ما في إحدى جوانب الحياة يعيشه الناس بصمت في ظل انسداد الواقع وغياب الأمل بإمكانية تحقق خلاص قريب من الأزمة.
وفي العموم، فقد بات الانتحار الحيلة الأخيرة للشباب اليمني اليائس للتعبير عن الرفض والغضب والاحتجاح في مرحلة يسمها الصمت والاضطهاد والخذلان. وهو أيضا صرخة في وجه الخراب والفوضى والعجز في حياة بلا عدالة وبلا أمان. ويمكن اعتباره كذلك محاولة أخيرة لتمزيق ذلك الشلل الجمعي الذي أصاب المجتمع في الوقت الذي بات يُسلب فيه كل شيء.