[ عدة ضحايا سقطوا جراء العنف الأسري خلال السنوات الأخيرة - الموقع بوست ]
انتشرت خلال السنوات الأخيرة، في اليمن، نوع جديد من جرائم القتل تُعرف بـ" جرائم قتل الأقارب"، حيث تزايدت أعداد الجرائم من هذا النوع إلى حد باتت فيه أقرب للظاهرة منها للحوادث الفردية، واللافت فيها هو ارتباطها بالأفراد المنتمين لجماعة الحوثي أكثر من غيرهم من الأشخاص، إضافة إلى تفشي هذه الجرائم بشكل غريب خلال السنوات الأخيرة في أغلب محافظات اليمن، حتى إنه لا يكاد يمر وقت طويل على وقوع إحداها حتى تكون جريمة أخرى مماثلة لها قد وقعت في مكان آخر، ضمن تصاعد مريع لسلسلة جرائم القتل الأسري في البلد.
إحصائيات وحوادث
خلال العام الجاري2021، فقط، رصد "الموقع بوست" عبر تتبع القصص، أكثر من سبع جرائم قتل أسري حدثت منذ مطلع العام، وحتى نهاية مايو المنصرم، كان آخرها ما حدث الجمعة الماضي في مديرية "القفلة" بمحافظة عمران (شمالي اليمن)، حيث أقدم مسلح على قتل والده وشقيقه وإصابة اثنين من أقاربه، على خلفية شجار عائلي، وقبل ذلك بأسابيع، كان شاب في صنعاء قد أقدم -في ظروف غامضة- على قتل والده وشقيقه وزوجة والده، رميا بالرصاص.
وفي العاشر من مايو المنصرم، وهو الشهر ذاته الذي شهد وقوع الجريمتين السابقتين، كان مسلح حوثي يدعى محمد قايد نصر، قد أطلق النار على ستة من أفراد أسرته في مديرية "جبل راس" بمحافظة الحديدة (غرب اليمن)، موديا بأربعة منهم فيما أصيب اثنين آخرين.
ومطلع فبراير الماضي، شهدت محافظة ذمار جريمة مماثلة راح ضحيتها أسرة كاملة، حيث أقدم المدعو جمال الكبسي، في مديرية "معبر" على قتل أسرته المؤلفة من 6 أفراد، وهم والدته وزوجته وأولاده الأربعة. وقبل الجريمة بأسابيع كانت جريمة أخرى مماثلة قد حدثت في محافظة صنعاء، حيث أقدم عنصر حوثي يدعى عبدالوهاب القايفي، على قتل والدته وإحدى شقيقاته رميا بالرصاص، إضافة إلى استهدافه لشقيقه الذي فر بإصابة من هذه الجريمة.
لا تتوفر حتى اليوم إحصائيات دقيقة لجرائم القتل الأسري في اليمن، لا لجهات رسمية ولا خاصة، باستثناء بعض محاولات الرصد المتواضعة التي أجرتها بعض المؤسسات الصحفية، كصحيفة الثورة التابعة للحكومة الشرعية، التي وثقت نحو 15 جريمة قتل نفذها حوثيون ضد أقاربهم، خلال الفترة من يناير 2020 وحتى يوليو 2021، في مناطق سيطرة جماعة الحوثي.
إلى ما قبل اندلاع الحرب في اليمن مطلع العام 2015، كان يمكن اعتبار جرائم "قتل الأقارب" حالات فردية، بيد أن انتشارها المتزايد خلال سنوات ما بعد الحرب يرقى بها إلى مستوى الظاهرة، بحسب الكاتب محمد دبوان المياحي.
طبائع نفسية جديدة
يقول المياحي، في تصريح لـ"الموقع بوست"، إن ارتباط ظاهرة قتل الأقارب بالأفراد المنتمين لجماعة الحوثي أكثر من غيرهم، أمر لا يتعلق بالحرب كمشكلة عامة، بل بطريقة إدارة جماعة الحوثي لسلوك أفرادها في تلك الحرب وفي الحياة عموما.
وهو يرى أن الجماعة تقوم بعملية إعادة صياغة للأفراد المنضوين تحت رايتها على نحو يفصلهم عن جذورهم الطبيعية في الحياة، ضمن منهج يسعى لقطع صلات الفرد العاطفية مع أسرته ومجتمعه، وذلك هو أخطر ما يحدث، وفق رأيه. مشيرا في السياق ذاته إلى أن الجماعة تعمل من خلال ذلك على تمزيق النسيج الاجتماعي، وتفكيك الروابط الأسرية التي تعد من أوثق العرى الإنسانية، سعيا لخلق طبائع نفسية جديدة داخل المجتمع.
تخريب بنيوي
وبحسب المياحي، فإن الحوثيون يعيدون من خلال ذلك إعادة تعريف هويات وشخصيات الأفراد التابعين لهم انطلاقا من رؤية الجماعة الخاصة، بحيث لا يعود الفرد يُعرّف هويته إلا بالانطلاق من مسألة انتمائه للجماعة، ويغدو الولاء لها هو المسألة المركزية التي تحدد دوافعه وسلوكه في الحياة. وبانحلال الروابط الأسرية والاجتماعية على ذلك النحو، لا يكون من الصعب اقتراف جرائم كالقتل الأسري على ذلك النحو من البشاعة الذي نراه في الواقع.
ويقول، إن جرائم القتل الأسري التي يمارسها العائدون من جبهات الحوثيين، تكشف وجود قدر كبير من التخريب البنيوي الذي يستهدف المجتمع، وذلك أمر ينذر بكارثة على حد وصفه، متوقعا ظهور حالات اختلال على نحو أكبر في المستقبل، في حال لم تنتهي الأزمة في وقت قريب.
لا يعتبر المياحي الكثير من مقاتلي الحوثي أسوياء. ويقول، بوسع أي محارب طبيعي أن يفصل بين حياة القتال والحياة الطبيعية، لكن ما يظهر هو أن المقاتل الحوثي لا يستطيع فعل ذلك، بسبب من التشوه النفسي الكبير الذي لحق به، لذا لا يعد غريبا حدوث الكثير من جرائم القتل الأسري على يد منتمون للجماعة.
آثار التعبئة الطائفية
أما الباحث في الفكر الإسلامي الدكتور عبدالله القيسي، فيشير في تصريح لـ"الموقع بوست"، إلى وجود علاقة بين ظاهرة قتل الأقارب والتعبئة الطائفية التي يتلقاها الشباب المستقطَبين لدى الحوثيين من قبل الجماعة ذاتها، وهي تعبئة -وفق رأيه- تكون موجهة بدرجة أساسية ضد المجتمع والأسرة وكل من لا يدين بولاء حقيقي للجماعة.
يقول القيسي، إن جماعة الحوثي تعادي الأسرة والمجتمع بدرجة كبيرة تحت ذريعة الجهل والضلال، لذا فإنها تعمد من خلال وسائل التحريض والتعبئة وخطاب الكراهية الذي تكرسه إلى ترسيخ حالة من المقت والكراهية في وعي المنتسب لها يوجه ضد الأسرة والمجتمع الذي ينتمي إليهما.
وهو يرى أن أول ما يحدث في عملية التعبئة الأيديولوجية - الطائفية، التي تتبعها جماعة الحوثي هو أنها تقوم بتحريض الشخص المنتمي لها ضد أسرته أولا، خصوصا، والده ووالدته، تحت ذريعة أنهما يعيقانه عن الجهاد وعن دخول الجنة، ومن هنا تبدأ عملية خلخلة المعتقدات الذهنية للفرد؛ الدينية والأخلاقية، ليتم غرس قيم جديدة عوضا عنها في وعيه، قيم لا تكون أخلاقية بالضرورة وتتسم بالعدائية والعنف والكراهية، ليجد المنتسب للجماعة ذاته بالمزيد من التعبئة والتطرف انتقاميا وغير متورعا عن ممارسة القتل حتى ضد أقاربه.
على أن ظاهرة "قتل الأقارب" تتسع داخل المجتمع أكثر لتشمل أفرادا لا ينتمون لجماعة الحوثي بالضرورة، وهؤلاء تلعب العوامل النفسية والاجتماعية لأزمة الصراع القائمة دروا في وصولهم إلى ذلك الحد من الاختناق والاعتلال اللذان يدفعان المرء لاقتراف جرائم كقتل الأقارب.
اختلالات نفسية
وفي هذا السياق، ترى المتخصصة في الإرشاد النفسي والاجتماعي، سحر محمد، وجود عوامل كثيرة، عامة وفردية، كامنة خلف ظاهرة القتل الأسري في اليمن، مؤكدة أن أغلبها يرتبط بالأعباء النفسية والأسرية والاجتماعية التي يمر بها من يقترفون ذلك النوع من جرائم القتل.
وبشأن ارتباط الظاهرة بأفراد جماعة الحوثي العائدين من الجبهات، تقول، إن الكثير ممن ينخرطون في جبهات القتال يكونون مثقلين أساسا بأعباء معيشية واجتماعية طافحة. مرجحة إصابة كل من يقترفون جرائم "القتل الأسري" بالعديد من الاضطرابات النفسية، كالذهان والقلق، أو يكونون غالبا مهيؤون للإصابة بها.
وبحسب محمد فإن السلوك الذي يظهر على أولئك الذين يقترفون جرائم قتل الأقارب؛ يكون سلوكا مرضيا يستدعي تدخلا علاجيا فوريا، ولا يمكن بأي حال اعتباره سلوكا سويا.
وتقول، إن الكثير من مقترفي جرائم القتل الأسري، العائدين من الجبهات خصوصا، يكونون مشوهين وفي حالة عدم اتزان نفسي، بسبب من تجارب القلق والخوف والتوتر والهلع التي خبروها في جبهات القتال بسبب من أهوال الحرب، على أن هذا الأمر لا يبرر بالطبع اقترافهم لجرائم قتل الأقارب، إنما يفسر جزء من أسباب إقدام بعضهم عليها.