نقل فلوبير الرواية إلى المنازل، ودفعها لتقتحم الفضاء الخاص، وتتحرك في المسافة ما بين الإنسان والإنسان، وما بين المنزل والآخر، لتصبح شاهد عيان على ما يجري في الطبقات الاجتماعية كلها. عاش طويلاً، وبقيت غرفته على مقربة من نهر السين مضاءة لعشرات السنين. ولم يكن بالأمر اليسير أن تقتحم "مدام بوفاري" و"التربية العاطفية" الاستقرار الاجتماعي، والتواطؤ الأخلاقي في فرنسا وأوروبا. كان على الرواية الفلوبيرية أن تواجه المؤسسة الدينية والأعراف معاً، وأن تقف على قدميها، وتتحدى.
لقد عاشت الرواية، منذ دون كيشوت، 1605 م، تذرع المنطقة بين الإنسان والظواهر الكونية، وبين الكائن والأسرار الكبرى جيئة وذهاباً. عند ذلك المستوى، وسيحضر في "القزم الأخضر" لتشارلوت برونتي، مجايلة فلوبير، بقيت الرواية مسلية ومحايدة في آن. صنع فلوبير، من خلال مدام بوفاري، انعطافة رهيبة في السيرة التاريخية للرواية، وفي طبيعة الرواية نفسها، ودفعها لإعادة هندسة ملامح القرن التاسع عشر.
في "فن الرواية" يسخر ميلان كونديرا من أوروبا التي وقفت على الحياد في المعركة التي خاضتها كتابة سلمان رشدي مع المؤسسة الدينية الأصولية في الشرق الأدنى. يذكر "كونديرا" الأوروبيين بما تعنيه الرواية داخل الحضارة الحديثة. فهي، في تقديره، من صَنَع الشكل الحديث للحضارة الأوروبية، وهي المسؤولة عن التأسيس للحق في القول، والحقوق الأخرى، بما فيها الحقوق السياسية. فالرواية الفلوبيرية أخذت القراء إلى الحدث، والفعل، وساعدتهم على الاحتجاج وتكوين الرأي والموقف والأخلاقي والعقلي، ودربتهم على الفضول والتدخل الأخلاقي. لقد خلقت الرواية، بذلك، العقل الأوروبي الحديث، بالمعنى الأخلاقي والفكري. إن التخلي عن رشدي، وهو يدافع وحيداً عن القيمة المركزية في الحضارة الأوروبية، يمثل خيانة ترتكبها في أوروبا في حق نفسها.
عملت الرواية، بشكل موازٍ، على صناعة مجتمع أوروبي جديد. وفي العام 1899 أنجز جوزيف كونراد عمله الأيقوني "قلب الظلام"، ليحكي من خلال بطله مارلو الوحشية الإمبريالية الأوروبية في الأماكن المظلمة، في الكونغو كمثال. ستواصل الرواية خوض معركتها في مواجهة القوى الشاملة غير الأخلاقية، كالإمبريالية والديكتاتورية والكنيسة المتوحشة. يمكن القول إن الصراع الذي خاضته الرواية مع الكنيسة ساعد على خلق كنيسة أكثر أخلاقية. وربما عملت الرواية على صناعة إنسان جديد، يذهب إلى الكنيسة ويختار من الخطاب اللاهوتي ما يرضي تطلعاته الأخلاقية والنقدية.
توصل عبد المنعم أبو الفتوح، المثقف الإسلامي المعروف، إلى استنتاج مشابه ساقه أمام نجيب محفوظ في احتفال الأخير بعيد ميلاده الثاني والتسعين. فقد ذكرت صحيفة أخبار الأدب في حينه نص ما قاله أبو الفتوح. في اللقاء ذاك كان أبو الفتوح يمثل، رسمياً، الإخوان المسلمين، لكن موقفه لم يكن يعكس سوى استنتاجاته. فقد شكر أبو الفتوح مُضيفه لأن إبداعه الروائي ـ يقول أبو الفتوح ـ خلق جيلاً من المصريين يرفض التطرف، ويختار الإسلام الوسطي المتسامح. كان أبو الفتوح يشير إلى فوز جماعته ب88مقعداً برلمانياً في انتخابات ٢٠٠٥ م، معتبراً ذلك الفوز السياسي المحدود اختياراً جماهيرياً لصورة من الإسلام ترفض العنف وتختار السياسة والمشاركة العامة. تبادل الحاضرون نقاشاً، كما يُفهم من مقالة كتبها يوسف القعيد في ذلك الحين. قاد حديث الرواية إلى إدانة "الدين البدوي"، وفقاً للمصطلح الذي نحته أبو الفتوح. فالدين البدوي هو الدين الوهابي، دين الصحراء، الذي لم تهذبه الرواية، واحتفظ بوحشية صحراوية لا علاقة لها بجوهره ولا بفلسفته.
ستخوض الرواية المحفوظية أجواء القرن العشرين، حيث الدين يتحكم في كل شيء، ويحكم كل شيء. كما ستشكل فكرتا "البعث الأخلاقي، والإتجاه إلى الدين القويم"، اللتان ستردان في مقالة كتبها محفوظ في العام ١٩٨٦، بُعدين مركزين في أعماله الروائية. ذلك ما سيجعله ينقلب على ناصريته من خلال عمله الشهير "الكرنك"، بعد أن فقدت الناصرية معناها الأخلاقي، وآلت إلى "حكم شمولي غاشم"، كما يصرح محفوظ.
المُعالجة الأخلاقية التي قدمها محفوظ في رواياته كانت عميقة ومستدامة، حتى إنه بالمقدور الاستماع إلى أبطاله وهم يقرؤون صفحات كاملة من القرآن داخل الرواية. ذلك الحضور الكثيف ل"الدين القويم" عند محفوظ لم يلفت انتباه أنور الجندي، المفكر الإسلامي الأشهر. فقد أفرد فصلاً كاملاً لتحطيم محفوظ في كتابه "الصحافة والأقلام المسمومة". اعتقد الجندي إن "الإلحاد والجنس" هما الثيمتان اللتان تقوم عليهما الرواية المحفوظية. كما أن "الضياع" هي السمة الشاملة لكتابة محفوظ، السمة التي جعلت من "الرجل لا شيء"، يستنتج أنور الجندي.
الجندي، ومفكرون إسلاميون آخرون، عثروا في أعمال نجيب محفوظ على "حشد من البغايا"، طبقاً للجندي. وهو لم يسق ذلك الحشد من البغايا إلا بوصفه ممثلاً للتغريب في البلدان المسلمة. لكن "أبو الفتوح" سيكتشف، بعد عشرات السنين، أن "حشد البغايا" في الرواية المحفوظية هو الذي سيساهم في خلق مجتمع معتدل ومتسامح، كما سيمنح الإخوان المسلمين 88 مقعداً في العام ٢٠٠٥، وأكثر من نصف البرلمان بعد ذلك.
أنارت الرواية الطريق للدين، كما أضاءت الطريق إليه. فالدين يرى العالم بوصفه مكاناً للدراما، أي الصراع، كما يلاحظ بيغوفيتش. قدمت الرواية، في النسخة العربية، الصراع وفقاً للشروط الأخلاقية، ومنحت الفضيلة البقاء في الفصول الأخيرة. فقد واجهت رواية الكرنك، لمحفوظ، الشمولية والديكتاتورية بشجاعة وعمق هما أكثر أهمية مما فعلته خطابية نجيب الكيلاني وواقعيته الإسلامية. لطالما ظفر أبطال محفوظ المتدينون والديموقراطيون بإعجاب القارئ. ربما ذلك هو ما دفع مفكر عربي كبير مثل جورج طرابيشي إلى القول إن الرواية المحفوظية وقعت في فخ الإيديولوجية الشعبية، تلك التي لا تقبل سوى بانتصار شكل معين للفضيلة، وصورة معينة للبطل. غير أن شكلاً ما من الدين خرج من روايات محفوظ رابحاً.
تعاني الرواية في العربية السعودية، وستعاني مستقبلاً. فالخطاب الروائي يُرى كمناهض أخلاقي وموضوعي للخطاب الديني. لا شكل آخر للبطل، ولا صورة أخرى للفضيلة صالح للتداول في السعودية سوى النموذج الذي تقدمه المؤسسة الدينية. فقد وضعت تلك المؤسسة نموذجاً صارماً للبطل الأخلاقي، وحددت ملامحه بما في ذلك المسافة بين أسفل ثوبه وكعب قدمه. تلك الصورة البرونزية للبطل، أي للدين، تهددها الرواية. في الخطاب الديني الشعبوي في السعودية ترتقي كلمة "ليبرالي" إلى درجة الملحِد، وهما كلمتان، في نهاية المطاف، تهددان استقرار المجتمع المسلم وسكونه، كما تقول السلفية السعودية. الليبرالي، كذلك، هو الروائي. إذ يمكن ملاحظة تجاهل الخطاب الديني لصفة الروائي وإبدالها ب"ليبرالي"، أي بالكلمة المعبأة شراً، والمُدانة سلفاً.
ينتج المثقفون في السعودية الرواية بصورة متزايدة. في العام 2009 أنتجت السعودية تسعين رواية، وهو عدد كبير نسبياً في بلد تشكل "هيئة الأمر بالمعروف" واجهته الأخلاقية والقانونية. وإذا اخترنا "الجهاد في سوريا" كوحدة قياس، سنجد أن المقاتلين السعوديين يشكلون أقل من نصف المقاتلين القادمين من تونس، بحسب تقرير نشرته BBC قبل عام ونصف. قبل ثلاثين عاماً اكتسح المجاهدون السعوديون جبال أفغانستان، وشكلوا النسبة الأكبر بين المقاتلين والقتلى. في تلك الأثناء لم تكن الرواية قد وجدت لها مكاناً في السعودية مقارنة بهذه الأيام. فلا بد أن الرواية التي عرفت طريقها إلى السعودية قد ساعدت، بدرجة أو أخرى، على خلق شكل جديد للدين، كما فعلت في أماكن أخرى وأزمنة أخرى.