مرايا أنور
الجمعة, 17 مارس, 2023 - 04:21 مساءً

من فجيعة الوجود وآدم البدايات الأولى إلى  آلهات الطين وزنابق البحر وبوح الياسمين ورود وأشواك،وصولا إلى أسئلة الذات والهويات.
 
تنقل أنور العنسي في كتابه مرايا الأزمنة من بداية البداية، في قرى وأرياف صباه في اليمن، إلى القاهرة ودمشق وطوكيو ونيوريك ولندن، وزهاء ثلاثين مدينة اصطفاها من بين مدن الأرض التي جاب ثلاثة أرباعها خلال مسيرته، تحولت معه المدن إلى قصائد وقصص وخرافات كتبها وكتبته، فأنتجت "مرايا الأزمنة"، وهو كتاب عالج من خلاله جمالية المدن، وقدمها عبر خارطة أو فسيفساء لغوية وشعرية ومعرفية كانت مزيجا من أدب الرحلات واللغة السردية والشعرية العابرة للتجنيس.
 
تنقل أنور في هذه المدن، وهوأحد رواد العمل التلفزوني، حاملا معه دهشته وشغفه بالتجربة والمعرفة،  كان صحفيا وكاتبا وأدبيا، لكنه هنا ابتعد كثيرا عن لغته الصحفية وذهب بعيدا إلى حافة الشعر.
 
كان يتنقل بين المدن كبستاني ماهر، تحولت البلدان أمام  يديه إلى أشجار يدرك جيدا  كيف يعاملها يشذبها ويداوي أوجاعها ويستكنه تفاصيلها.
 
من الهندسة المعمارية والفنون، وتعدد الثقافات وتنوعها التي لعبت أدوارا مهمة في حياة المدن ومجتمعاتها، ليذهب إلى جوهر إنسانها ويغوص في حضارتها المثقلة بالرموز الدينية، والآثار التاريخية، حضارات وصراعات سياسية، وتباينات ثقافية تحكم تلك المجتمعات ومؤسساتها.
 
  إنها تلك الأمكنة التي زارها وشكلت خارطة هذا الكتاب بهذه اللغة الانسيابية الساحرة لكن لماذا لم يقل مرايا الأمكنة واختار أن يكون عنوانه "مرايا الأزمنة "؟ فهل يمكن أن تكون هذه المفارقة  موضوعا جيدا للحديث؟
 
مفارقة ربما تعكس العلاقات الشائكة والجاذبة معا بين الزمان والمكان، فتبدو مرايا الأزمنة استحضارا لأزمنة العنسي التي عاشاها في رحلاته الأمكنة تلك.
 
كل زمن عاشه  أنور كان لوحة منفصلة في الذات -ذاته-، وصراعاته المعقدة بين العقل المعرفي، الذي يتمدد زمنيا لأحقاب تاريخية وتراكمات  حضارية وثقافية طويلة وبين تجربته التي تلقت ذلك صدمة تلو الأخرى حتى تجعل من حياته حيوات كثر.
 
قيل قديما إن المعرفة تحرر الإنسان، غير أن أنور واقع أكثر في شباك المعرفة، إذ بدت تجربة المدن كأزمنة تقيده كل مدينة يزورها ويغوص في تفاصيلها أضافت له قيدا يصعب التحرر من تأثيره، فأغرقته أكثر، وباتت أزمنتها دوامات تتدفق من خلالها مدن وعصور ودورات حياة وتحولات بات عالقا بها.
 
هذا التعالق بين هذه العوالم وعالمه تحولت معه  المرايا إلى صراع يتنامى بين  التسارع الرهيب الذي تولده هذه المدن، وبين الذات التي تسعى لاستيعاب وتأوييل آفاق هذه المعرفة المتراكمة والتحولات الكبيرة بين كل مدينة وأخرى، بحضارتها وأجناسها وأعراقها وثقافتها المختلفة وبين رغبته الكامنة في الانفتاح على كل ذلك ومحاولة تفسيره وتأسيس تجربته ومعالجته بهذه النصوص.
 
ارتباط الزمن بالإنسان حالة وجودية ووجدانية قديمة، ولطالما رهن الإنسان  قراراته وإرادته بتناقضات رهيبة وحاول رسم مصيره، كالبقاء والخلود ومقاومة مخاوفه وهواجسه من الفناء والتلاشي بعامل الزمن وليس المكان.
 
هذا هو الزمن الذي  يتجاوز ارتباط الإنسان  بالمكان الذي يمثل شبكة علاقات وعوالم خارجية فيما الزمن يبدو كجسر الحياة للجسد أو بعده الوجودي.
 
يبدو الانسان هنا أشبه بكيس رمل، كيس رمل مثقوب، لكن محتوى الكيس هذا ليس رملا إنه الوقت، إنه جسد ينزف الوقت، إذن لماذا كانت المرايا أزمنة؟ لأن تلك المدن بكل إلهامها وسحرها لم تكن إلا مرايا وانعكاسات أزمنة العنسي نفسه، التي تشكلت في تلك المراحل باختلافها، وكونت هذا الرصيد من التجربة الغنية الروحية والفكريه والمعرفية.
 
يبدو أنور هنا  زمن يتدفق في هذه المرايا  ( المدن – التجارب)  وهو يخوض صراعاته مع الحياه يحارب فيخسر وينتصر يعشق فيموت ويبعث .
 
تأخذه الحياة في مناح ومناخات شتى وفي كل رحلة وفي كل معركه ينقص أنور (الزمن ) ويتسع أنور (التجربة).
 
إذن ياله من عنوان بالغ الأنانية بالغ التأثير، مرايا الأزمنة لم يكن سواه مرايا أنور العنسي، رحلة ساحرة في المكان والإلهام واللغة والشعر، إنها تجربة إنسانية تستحق قراءتها في نصوص متقنة، عابرة للتجنيس الأدبي، يتقاطع فيها الفن والأدب بالمعرفة، ليشكل هذا المزيج من أدب الرحلات والمذكرات الشخصية وسِفر من أسفار اللغه الساحرة.
 
تسلح أنور بمعرفة تمكنه من فهم طبيعة هذه  المدن والتحولات التي شهدتها، وفق معطيات تاريخية وثقافية، خارطة معرفية ترك لأزمنته أن تتداخل في أزمنتنا وتشكلها، فتنساب برحابة تدفعنا للتساؤل: كيف ستكون هذه المدن بالنسبة لنا لو لم ينقل لنا أنور تصوراته الخاصة عنها؟
 

التعليقات