الإجابة عن هذا السؤال تحتاج إلى بحث دقيق في أصل المشكلة وتشخيصها لمعرفة توجهات الشارع العربي وطبيعة مواقفهم تجاه محور المقاومة وفكرة المقاومة ذاتها، والدوافع وراء سلوكهم المعادي لهذا المحور، الذي يشكل المدافع الأول لهم في مواجهة عدوهم التاريخي، العدو الإسرائيلي الذي يغتصب أرض فلسطين منذ عام 1948م.
هناك تداخل عجيب في هذه القضية بالتحديد، حيث التقت فيها العوامل السياسية والمذهبية والقومية. هناك المذهب الشيعي في مقابل المذهب السني، وهناك النمط السياسي الذي يسعى إلى الاستقرار في مقابل النمط الذي يسعى إلى الثورة. هناك القومية العربية في مقابل القومية الفارسية والتركية. كل هذا المزيج تفاعل مع بعضه ليفرز لنا ثلاثة اتجاهات وأنماط تجاه محور المقاومة وفكرة المقاومة للعدو الإسرائيلي وكيف يمكن أن تتم.
هذه التيارات هي كالتالي:
أولاً: التيار المعادي لمحور المقاومة جهاراً، وهو يشكل جزءاً كبيراً من الشارع العربي. هذا التيار بنفسه لا يزال منقسمًا إلى جزئين بحسب طبيعة قناعاته:
1- الجزء الأول: يمثل جمهور أغلب الدول التي اختارت طريق التطبيع مع العدو الإسرائيلي ورأت أنه من الأفضل لها إقامة العلاقات التجارية والدبلوماسية مع العدو الصهيوني. هذا التيار لا يستهويه أي عمل مقاومة للعدو، بغض النظر عن من يقف خلف هذه المقاومة سواء كان سنيًا أم شيعيًا. بالنسبة لهم، شعار المقاومة يمثل هجوماً عليهم كونهم فضلوا طريق التسويات السياسية مع إسرائيل، ورفعوا شعار حل الدولتين والعودة إلى حدود 1967م كحل للخروج من هذا الموقف، الذي يعد في نظر الجمهور السوي عمالة واضحة للكيان. النمط الخاص بهذا التيار هو الاستقرار السياسي والاقتصادي لدولهم، ومن هنا ينبع شعور الكراهية والشماتة لديهم تجاه كل حركات المقاومة بمختلف مشاربها؛ لأنهم يرون أن هذه الحركات لا تمثل التوجه العروبي على طريق الخليج العربي، وأنها مشاريع لتوسّع إيراني في المنطقة، وتشكل تهديداً مباشراً لاستقرار عروشهم. فقناعتهم هي البناء والاستقرار وليس المقاومة المسلحة للعدو الإسرائيلي. ويتزعم هذا التيار دول الخليج خصوصاً السعودية والإمارات.
2 -الجزء الثاني: يمثل الاتجاه المعادي لمحور المقاومة وفي الوقت نفسه معادٍ للكيان الصهيوني، ولا يميل إلى أسلوب تطبيع العلاقات مع العدو الإسرائيلي.
ولكن لماذا هم ناقمون على محور المقاومة؟ رغم أنهم اختاروا طريق المقاومة بدل التطبيع؟ أولاً، إذا نظرنا إلى توجهات هذه الفئة، سنرى أن الغالبية في الأمة العربية تنتمي إليها. هذه الفئة لا تكره المقاومة بحد ذاتها، لكنها كرهت القائمين على هذا العمل لعدة أسباب. أحد هذه الأسباب هو أن محور المقاومة قد نكّل بهم أو بثوراتهم، مثل حزب الله في لبنان الذي يلاقي سخطًا شعبيًا في الشارع السوري بدرجة أولى، وخاصة من جانب الثوار الذين رأوا أن لحزب الله دوراً كبيراً في إفشال ثورتهم. كذلك في الشارع اليمني، ينظر البعض إلى حزب الله كشريك أساسي لجماعة أنصار الله في اليمن، التي تحكم حالياً في صنعاء. لهذا السبب، تجد كل من يعادي أنصار الله في اليمن دائماً مشككاً في أعمال المحور. هذه الفئة مع فكرة المقاومة للعدو الإسرائيلي، لكنهم ضد من يقوم بها، باستثناء حركة حماس. ودائمًا ما يردد هذا الاتجاه شعار "اللهم اضرب الظالمين بالظالمين وأخرجنا منهم سالمين".
ثانياً: التيار الموالي لمحور المقاومة، ويتمثل في حركة أنصار الله في اليمن، حزب الله في لبنان، النظام السوري بقيادة بشار الأسد، الحشد الشعبي في العراق.
هذا التيار يعادي المطبعين ويرى أنهم جزء من مشروع الغرب. النمط الخاص بهذا التيار هو المقاومة للعدو مهما كلف الثمن، وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في أغلب أماكن تواجدهم. يتزعم هذا التيار إيران، وأغلب شعاراتهم موجهة للدول الغربية والأنظمة المطبعة وإسرائيل على حد سواء. يرون أن إسقاط هذه الأنظمة جزء من عملية المقاومة للعدو الإسرائيلي، وبالتالي، فإن أي ضربة توجه للعدو الإسرائيلي تشعرهم بالنشوة، وأي ضربة من إسرائيل للمحور تسيئهم وتشعرهم بالخيبة. شعارهم أن الوحدة هي الأهم للأمة، وأن العدو الإسرائيلي يشكل خطرًا على الجميع بدون استثناء، وأنه يجب الاصطفاف خلفهم لمواجهة هذا الخطر.
ثالثاً: التيار الذي لا يميل إلى المحور بشكل مباشر ولا إلى التطبيع، ويرى أن جميعهم لا يرقون إلى مستوى المواجهة مع العدو الإسرائيلي.
هذا التيار يؤيد فكرة المقاومة، لكن بطريقتهم التي يرون أنها تبدأ ببناء البلدان، ونشر الديمقراطية، ورفع مستوى الشعوب اقتصاديًا وعسكريًا، حتى يتمكنوا من مواجهة العدو الإسرائيلي الذي حقق تقدمًا كبيرًا في التطور التكنولوجي والعسكري. هذا الجزء ليس منحازًا لأي طرف، سواء محور المقاومة أو التطبيع. هم فقط يشعرون ببعض الفرحة عند توجيه الضربات لمحور المقاومة، لكنهم لن يؤيدوا هذا المحور إلا إذا حقق نصرًا مبينًا ضد العدو الإسرائيلي. دورهم مغيب، ويمثلون الرأي العام المسحوق والمنبوذ من الطرفين، وربما سيكون لهم اليد العليا في المستقبل القريب.
من خلال ما سبق، يبدو أن توحيد جهود الأمة في مواجهة هذا العدو الإسرائيلي هو الخيار الأمثل، ولكن هل هذا ممكن؟ نعم، هذا ممكن في حال توفرت الإرادة السياسية العليا أو إذا توحدت إرادة الشعوب، من خلال التركيز على النقاط المشتركة، مثل التركيز على الإسلام كدين واحد بعيداً عن التفرقة المذهبية أو القومية، والنظر إلى القضية الفلسطينية كقضية واحدة ليس فقط من منظور ديني، بل وأخلاقي. هي قضية كل الأحرار في العالم وليست قضية العرب وحدهم. والعمل على تبني نظم سياسية تشجع الديمقراطية والتعايش السلمي والتداول السلمي للسلطة، لتعزيز شعور الوحدة ونبذ التعصب. ما لم يتم ذلك، فلن يشهد الشارع العربي إلا مزيداً من الفرقة والتشرذم.