محمد الصهباني

محمد الصهباني

كاتب وإعلامي يمني

كل الكتابات
النوبيلة كرمان.. نضال عالمي وتمويل المبادرات الإنسانية
السبت, 10 مايو, 2025 - 01:25 مساءً

الحديث عن السيدة توكل كرمان، امرأة يمنية شجاعة، يستلزم أولاً التصدي لحملات الإسفاف والتشويه الإعلامي والنفسي التي تستهدف حضورها ودورها النضالي والإنساني. فهذه الحملات، على اختلاف أساليبها وتكرار أدواتها، لم تَثنِها يوماً، ولن تنال منها أبداً. ويقع على كل شريف ووطني حر واجبٌ أخلاقي وقيمي في التصدي لها، بعيداً عن الحسابات السياسية.
 
هذه اليمنية الأصيلة بقيت، وما تزال، عصيةً على الانكسار، عاليةً في عزتها، لا تطالها نفايات المتقولين. امرأة لو أُنصفها الوعي العام، لأُحيطت بهالات من التقدير، ولجعلت قلوب الشرفاء ترسم لها وردةً ورديةً كلما بلغهم نبأ عن فعلها الإنساني النبيل. إنها من أولئك النساء اللواتي لا يقدمن مجرد عطاء، بل يُعيدن للعطاء معناه الجوهري، ويجعلن منه علامةً على الوجود الحق.
 
وُلدت توكل كرمان في السابع من فبراير عام 1979، ومن حسنات القدر أن يرتبط 7 فبراير بذات الشهر الذي أصبح، بعد ثلاثة عقود، عنواناً لثورة الحادي عشر من فبراير 2011، حين خرج ملايين التواقين إلى التغيير ضد نظام الاستبداد والتوريث. كأن الأقدار رتّبت ميلادها لتكون إحدى أيقونات الحرية، وصوتاً نسوياً انطلق من قلب التقاليد ليصل إلى المنابر الدولية، حاملاً همّ الإنسان اليمني، ورافضاً العنف والاستعباد، ومدافعاً عن كرامة الفرد وحقه في الحياة.
 
حملت ألقاباً عديدة، أبرزها "أم الثورة" و"المرأة الحديدية"، وكانت في طليعة قيادات الثورة الشبابية السلمية ضد عهد الرئيس السابق علي عبد الله صالح. تعرضت للاعتقال والتهديد والتشهير، لكنها واصلت نضالها، مؤمنةً بخيار اللاعنف كطريقٍ للتغيير. شاركت في مؤتمر الحوار الوطني قبل أن تتوقف العملية السياسية في 2014م. حصلت على جوائز دولية، وذُكر اسمها في قوائم أكثر النساء تأثيراً. تحمل مؤهلات أكاديمية عليا، إضافة إلى دكتوراه فخرية في الصحافة وحقوق الإنسان والقانون.
 
برزت في سياق أزمات سياسية واجتماعية متفاقمة، فأسست منظمة "صحفيات بلا قيود" للدفاع عن حرية التعبير، وكشف الانتهاكات بحق الصحفيين والنشطاء. ومع انطلاق ثورة فبراير، كانت من أوائل من صعدوا المنصات، تهتف للتغيير وتلهم الجماهير، حتى غدت رمزاً من رموز الانتفاضة السلمية، ومثالاً عالمياً للمرأة المتمسكة بمبادئها. تُوّجت بجائزة نوبل للسلام، اعترافاً دولياً بدورها البارز في الحراك الشعبي السلمي.
 
وبعد الثورة، اتجهت إلى العمل الإنساني والتنموي. ونتذكر هنا، للحصر، مبادراتٍ في التعليم والصحة والمياه، خصوصاً في المناطق المتضررة من الحرب. أنشأت مدارس، ومعاهد، واهتمت كثيراً بمعالجة العشرات من مرضى الفشل الكلوي، وساهمت في توفير مشاريع مياه نقية، بما يعكس حضوراً ميدانياً فعّالاً في بيئة تُعاني من انعدام الخدمات الأساسية. ورغم أنها ساهمت بتوفير مشاريع خيرية خارجياً، إلا أن النصيب الأكبر والأوسع كان داخل بلادها. وأجزم أنها ساهمت بدعم أعمال إنسانية لا يعلم بها إلا الله وحده.
 
واصلت التزامها الحقوقي من خلال مشاركاتها في المحافل الدولية، مدافعة عن الديمقراطية، ورافضة للانقلابات والاستبداد داخل اليمن وخارجه. بقي صوتها حاضراً في المؤتمرات والمنتديات، مناصراً للمظلومين، وناقداً لحكومات القمع وأجهزتها الأمنية.
 
ما يُميّز مسيرتها هو التزامها الأخلاقي الواضح، ورفضها الانخراط في تحالفات مؤقتة أو صفقات سياسية، محافظةً على خطاب مبدئي، دون الانجرار إلى الاصطفافات أو ضغوط اللحظة. لم تكن مجرد ناشطة تُدين القمع، بل امرأة تجسّد القيم في حياتها اليومية: تبني، ترعى، تواسي، وتدعم.
 
تجاوزت توكل كرمان اللحظة الثورية، لتصبح رمزاً راسخاً في الوعي الجمعي، ونموذجاً للمرأة اليمنية التي خرجت من مجتمع محافظ إلى دائرة التأثير العالمي، ما يعكس تحوّلاً نوعياً في الوعي تجاه دور النساء في التغيير وصناعة القرار.
 
وعلى المستوى الإنساني، فإن أي وجدان حي لا يسعه إلا أن يشعر بالامتنان لمن جعل من ماله ووقته جسراً للآخرين نحو النجاة. وقد فعلت توكل كرمان ذلك دون ضجيج، مقدّمة دعماً مباشراً لمئات الحالات المرضية، أفراداً وعائلات، وكانت، ولا تزال، وستظل، يداً كريمة في مواطن العجز، ونبضاً حاضراً في منازل من قست عليهم الحياة. وتجلّى ذلك في رعايتها لعدد من المواهب الفنية اليمنية، والاهتمام الكبير بمعالجة الكثير من الهامات الفنية والسياسية. وفي مبادرتها مؤخراً لمتابعة الحالة الصحية للزعيم المناضل الكبير علي سالم البيض، عبر تواصلها المباشر مع نجله هاني، في لفتة تنضح بصدق إنساني لا يُصطنع.
 
ورغم ما تعرّضت له من حملات تشويه وسخرية، بقيت على ثباتها، لأن خصومها لم يجدوا سلاحاً في مواجهتها سوى الإنكار والتقليل، بينما ظل أثرها الإنساني والحقوقي شاهداً على صدق الالتزام ونقاء الوجهة.
 
وفي زمنٍ تآكلت فيه الثقة بمعظم الوجوه السياسية، تظل توكل كرمان واحدة من النماذج النادرة التي لم تخن الثورة بعد أن هدأ ميدانها، ولم تساوم على القيم حين راجت المزايدات. إنها ليست فقط رمزاً لفبراير، بل امتدادٌ حيّ له، وتجسيدٌ مستمر لمعناه الأعمق: الحرية حين تتحوّل إلى سلوك، والمبدأ حين يصير مصيراً.
 

التعليقات