قراءة في كتاب التفكير العلمي
الثلاثاء, 24 يونيو, 2025 - 07:54 مساءً

حين نتأمل مسار العقل البشري، ندرك أن الوصول إلى نمط التفكير العلمي لم يكن مصادفة أو هبة طارئة من التاريخ، وإنما نتيجة سيرورة طويلة من التحولات، عبَر خلالها الإنسان تضاريس وعرة من الأساطير والتقاليد وسلطات الماضي حتى تشكّل وعي جديد يطلب الفهم لا التفسير السطحي، يطلب النظام لا الفوضى، ويريد فهم ذاته عبر فهم العالم.
 
في بداية هذا الطريق، يبرز المؤلف خمس سمات مركزية للتفكير العلمي تشكل أعمدة صرح معرفي ضخم.  التراكمية؛ إذ إن العلم لا يتوقف ولا يكتفي، ولا يعود إلى الوراء. حركة لا تعرف السكون، تتمدد وتتعاظم، تضيف الجديد إلى ما سبق، فتتسع معرفته رأسيًا حين يغوص في عمق الظواهر وأفقيًا حين يفتح نوافذه نحو ميادين جديدة. التراكم لا يعني التكرار، وإنما التقدم عبر التجاوز.
 
التنظيم، فتتجلى في إرادة الإنسان إخضاع الفوضى لمنطق وتحويل المعرفة إلى أداة واعية خالية من الارتجال. العقل العلمي لا يكتفي برؤية العالم، يصر على ترتيبه، فهم علاقاته، وتصنيفه في أنساق واضحة المعالم، يتقدم فيها المنهج على الحدس، والنسق على الفوضى، والتجريب على التأمل العابر.
 
ثم البحث عن الأسباب، جوهر التفكير العلمي، حيث لا يكون الفهم تامًا إلا بكشف روابط العلل، ولا يعود الظاهر قشرة تخدع، بل مدخلاً إلى جوهر يمكن الإمساك به وتفسيره. كل معرفة لا تكشف السبب تظل ناقصة، وكل ظاهرة لا تُفهم أسبابها تبقى خارج السيطرة. من هذا المنطلق، كانت معرفة انتقال الموجات الصوتية فتحًا مهد لاختراع الهاتف والراديو والوسائط الصوتية. العلم يبدأ بالسؤال، يزدهر بالتفسير، ويثمر حين يتحول التفسير إلى أداة عملية.
 
يقدم الكاتب سمة رابعة الشمولية واليقين، التي تمنح العلم قوته وانتشاره، فالعلم لا ينشغل بجزء من الظاهرة، يسعى لإحاطتها من كل جانب، لا يرضى بتفسيرات محلية، يقيم قضاياه على أسس تجعلها مقبولة لدى كل من يلم بها. اليقين ينبع من التماسك الداخلي للمنهج، التجربة، القابلية للتكرار، انسجام الفكرة مع الواقع.
 
أيضًا الدقة والتجريد، إذ إن العلم لا يحتمل الغموض، لا يسكن العبارات الفضفاضة. هو فن التفاصيل، ميدان الضبط، أداة الحسم، عبره حوّل الإنسان التصورات إلى أدوات، وحكم قبضته على الطبيعة من خلال معادلات ومعايير دقيقة تمنع العشوائية من التسلل.
 
غير أن هذا المسار لم يكن خاليًا من العقبات. كانت الأسطورة والخرافة أول ما واجهه العقل في بداياته. كانت الأسطورة تفسيرًا خياليًا يُرضي المخيلة أكثر مما يقنع العقل، تمحو الفاصل بين الطبيعة والإنسان، وتجعل الكون كائنًا حيًا له نوايا ومشاعر، لا قوانين يمكن كشفها. ثم ظهرت عقبة السلطة، إذ أصبحت أقوال القدماء، كأرسطو، قوانين نهائية تحفظ ولا تناقش، ويحرم الاعتراض عليها. صار العقل محاطًا بسياج من القداسة، وحرِم عليه التساؤل.
 
عقبة الحدس وإنكار العقل ظهرت كذلك، حين بدأ البعض يمجدون الإلهام الفوري، ويعتقدون أن الحقيقة تُلقى في النفس دون برهان. أمام هؤلاء وقف المؤلف مدافعًا عن العقل كأفق مفتوح للمعرفة، لا مجرد أداة. ثم ظهر التعصب، حين أصبح الإنسان أسيرًا لرأيه، عاجزًا عن رؤية ما هو خارج إيمانه أو موروثه، وقد قتل هذا التعصب النقاش ومات التساؤل، وجعل العقل عبدًا لقيم الطاعة والانغلاق.
 
يتناول الكاتب الإعلام في عصرنا يتجلى كتحدٍ  أكثر مكرًا، وهو الإعلام الموجه، الذي لا ينقل المعلومة فحسب، بل يشكل الوعي. إذا انحاز للسطحية أو خضع للمصالح، يصوغ عقولًا لا تسأل، يخلق وعيًا لا يفكر، ويسد الطريق أمام بناء عقل علمي ناقد.
 
على امتداد التاريخ، مر العلم بثلاث محطات كبرى: الأولى في العالم القديم حيث ظهرت الحضارات الشرقية بخبراتها التطبيقية، ثم الحضارة اليونانية التي ابتدعت التحليل العقلي. هذه الحضارات لم تكن متناقضة، ساهمت معًا في تشكيل معنى العلم الأول، رغم اختلاف منطلقاتها.
 
المحطة الثانية في العصور الوسطى، حيث تجمد العلم في أوروبا داخل قوالب لاهوتية تحكمها الكنيسة تمنع المساءلة، بينما ازدهر في العالم الإسلامي في العصر العباسي، حيث جمع العلماء بين النقل والتحليل، العلم النظري والتطبيق العملي، وأضافوا إضافات لا تزال حاضرة حتى اليوم.
 
المحطة الثالثة هي العصر الحديث، حيث انفصل العلم عن الفلسفة، وبرزت منهجية جديدة تقوم على الملاحظة والتجريب، تأسست الجمعيات العلمية، وظهر مبدأ العمل الجماعي الذي جعل العلم مشروعًا تشاركيًا، لا جهدًا فرديًا معزولًا.
 
في القرن العشرين، بدا كأنّ العقل البشري خرج من قمقمه، مطلقًا ثورته الكبرى. اتسعت رقعة العلم كما لم يحدث من قبل، وانفجرت المعرفة كأنها كانت تنتظر قرونًا كي تولد دفعة واحدة. لم تعد الاكتشافات تُحصى، ولم تعد الحياة كما كانت. لقد دخل العالم مرحلة من التحول الجذري، مرحلة لم تكن مجرد تراكم للمعارف، بل كانت قفزات نوعية قلبت موازين الحضارة.
 
ظهرت الطاقة الذرية في قلب هذا التحول. لم يكن اكتشافها مجرد إنجاز علمي، بل كان زلزالًا أخلاقيًا وسياسيًا. مشروع مانهاتن، الذي قاده آينشتاين ومعاونوه، لم ينتج قنبلة فحسب، بل أنتج عصرًا جديدًا من التوترات الدولية. أصبحت المعادلة بسيطة ومخيفة: إما أن تملك السلاح النووي، أو أن تعيش تحت رحمته. لم تعد الحرب مجرد جيوش على الأرض، بل توازن رعب بين أزرار قادرة على محو مدن بأكملها.
 
ثم جاء "السبرنطيقا"؛ العلم الذي منح الآلات عقلًا، وفتح الطريق نحو العقول الإلكترونية. في مختبرات نوربرت فينر، لم يكن السؤال عن كيفية تشغيل الآلة، بل عن كيفية محاكاتها للدماغ البشري. ومن هناك بدأ الحلم  أو الكابوس في التشكّل أن يتجاوز الذكاء الاصطناعي الذكاء الطبيعي، أن يصبح الإنسان صانعًا لما قد يتجاوزه.
 
وفي خضم هذا الصعود، أطلقت الأرض أولى رسائلها إلى السماء. الصواريخ لم تعد تنطلق فقط لتقصف، بل لتستكشف. "سبوتنيك 1" خرج من مدار الأرض ليفتح مدارًا جديدًا في الوعي البشري. ولأول مرة، يرى الإنسان كوكبه من خارجه، ويرى مستقبله يبتعد عن الأرض شيئًا فشيئًا.
 
ورغم هذه المنجزات، لم يخلُ المشهد من ظلال كثيفة. فكل إنجازٍ علمي مهما بدا بريئًا حُمّل أجندات سياسية، واستُخدم في سباقات النفوذ. لم يُوظف العلم دائمًا لأجل الإنسان، بل استُدرج أحيانًا ليكون سلاحًا بيد الدولة، ووسيلة لتعزيز الهيمنة. أصبح العلم أداة صراع دولي، تُحجب أسراره، وتُحتكر تقنياته، ويُحرم منها من لا يملك سلطة أو اقتصادًا أو نفوذًا.
 
وهكذا، بينما كان من المفترض أن يخدم العقل البشري الإنسانية، أصبح أحيانًا طوعًا في يد أنظمتها، ينفذ أوامرها، ويُستخدم لترسيخ قوتها.
 
في تأمل العصر الراهن، يلاحظ المؤلف العلاقة بين العلم والتكنولوجيا، التي لم تكن وليدة الصدفة، وإنما نتيجة حاجة المجتمع لتحويل المعرفة إلى أدوات، ورغبة في تسخير الطبيعة. مع الثورة الصناعية، تصاعد هذا التلاحم، وبرز المهندسون كجسر بين النظرية والتطبيق، وبدأت التكنولوجيا تظهر كواجهة بارزة تجسد نتائج العلم.
 
أصبح العلم القوة الخفية التي أعادت صياغة العالم، متفاعلاً مع السياق الاجتماعي لا بمعزل عنه، وتحولت المعرفة من ترف فلسفي إلى ضرورة حياتية، لا تكتفي بشرح العالم، وإنما تعيد تشكيله.
 
ختامًا، يتجلى من طرح المؤلف في الكتاب حول مسيرة “التفكير العلمي” أن العلم أحدث انقلابًا جذريًا في حياتنا، وتحولت آثاره إلى بصمات لا تُمحى في تفاصيل وجودنا اليومي. عالمنا يتسارع نحو المستقبل مدفوعاً بنهر متدفق من الاختراعات والانجازات العلمية التي أزاحت حدود الممكن. العلم اليوم هو سلاح العصر ومفتاح التقدم، أثره الإيجابي يتغلغل في كل زاوية من حياتنا، حتى أن المؤلف يؤكد أن كل تقدم بشري تحقّق في العقود الأخيرة يتأسس على أكتاف العلم. مع ذلك، تبدلت ملامح العلم ليصبح سلعة تجارية بامتياز، تخضع لتوازنات القوة والسيطرة، تتحكم فيها الدول المتقدمة التي فرضت هيمنتها على بقية العالم، وصار البحث العلمي رهينة المصالح التجارية الضيقة. ظهرت نزعات قومية غاشمة لدى الغرب، تستولي على العلم وتدّعي امتلاك التفوق والريادة، رغم أن العلم في جوهره ملك لكل البشرية دون حصص أو احتكار.
 

التعليقات