يصعب الاعتقاد بأننا سنرى بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية عودة إلى الدور الأميركي السابق في الشرق الأوسط. أي دور الشرطي أو الرادع أو الضامن. وإذا كانت حرائق «الربيع العربي» كشفت انسحاب الظل الأميركي من المنطقة، فإن رحلة الانسحاب بدأت عملياً من بغداد.
كان ذلك في عام 2010. قلت للرئيس جلال طالباني أننا اضطررنا بعد خروجنا من مطار بغداد إلى السير مسافة طويلة وراء رتل عسكري أميركي مهيب. أجابني ببراعته المعهودة ما معناه أن هيبة أميركا انسحبت من العراق قبل انسحاب جنودها المقرر في السنة التالية.
استوقفني كلام طالباني. في اليوم التالي سألت رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي عما يشاع عن انحسار الدور الأميركي في العراق، فأجاب: «بعد الاتفاق الذي وقّع بيننا وبينهم فإن الوجود الأميركي في العراق هو في بلدٍ ذي سيادة، كما الوجود الأميركي في اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية».
بعد خمسة أعوام على هذا الكلام، تحديداً في كانون الثاني (يناير) من العام الماضي، ذهبتُ للقاء رئيس الحكومة حيدر العبادي بعد شهور على سقوط الموصل في يد «داعش». شعرتُ حين نمت في المنطقة الخضراء بأن أميركا التي تركت العراق لمصيره تتابع رحلة استقالتها من دور الشرطي، وها هي تترك الشرق الأوسط لمصيره، ربما باستثناء أمن إسرائيل.
صحيح أن الطائرات الأميركية تُغير اليوم على مواقع «داعش»، وأن آلافاً من الجنود والخبراء الأميركيين يساهمون في استعادة الموصل ومعها الرقة، لكن الصحيح أيضاً هو أن هذه المساعدة الأميركية لا تلغي خيار الانسحاب الذي بلوره باراك أوباما ونفّذه. إذا استثنينا أمن إسرائيل، فإن أوباما انشغل بموضوع وحيد آخر هو الاتفاق النووي مع إيران.
تصرّف أوباما كمن يئس من الشرق الأوسط. اعتبر أن هذه المنطقة لا تستحق أن يُهدَر من أجلها دم الجنود الأميركيين ولا بلايين الخزينة الأميركية، وأنها عالقة في كهوف التاريخ وحروبه. وضاعف الميل إلى الانسحاب تراجع حاجة أميركا إلى نفط الشرق الأوسط.
ساهم غياب الشرطي الأميركي في سقوط حصانة التوازنات التاريخية في الشرق الأوسط. استيقظت أحلام قديمة، خصوصاً لدى دول نامت طويلاً على ذاكرة إمبراطورية. دول تعتبر أن التاريخ قلص امتداداتها وبتر أطرافها. في هذا السياق يمكن فهم الهجوم الإيراني في العراق وسورية ولبنان واليمن. وفهم الكلام الأخير للرئيس رجب طيب أردوغان عن حلب والموصل وتلعفر. سقطت حصانة الحدود الدولية واختلطت الجيوش بالميليشيات الوافدة، وتراجع الحديث عن الدول لمصلحة الحديث عن المكوّنات.
كانت دول الشرق الأوسط في السابق تتبرّم سراً بسلوك السفير الأميركي. يتحدث كمن يملي إرادته. يتدخّل في ما تعتبره العواصم أموراً لا تعنيه. يلفت وينصح ويحذّر ويكتب إلى إدارته. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، باتت روسيا نفسها دائمة الانشغال بمزاج السفير الأميركي والثورات الملونة ومطالب المجتمع المدني. اليوم تفتقد دول الشرق الأوسط الدور الأميركي السابق، وإن شكت منه في حينه. بلغ الانسحاب الأميركي حدوداً غير مسبوقة. روسيا تُشرعِن قواعدها العسكرية على الأرض السورية وتعاقب المعارضين قبل الإرهابيين. السفن الحربية تتجمّع كنذر الغضب، والقيصر يستحم في الدم والمياه الدافئة.
كان الحضور الأميركي مشكلة بسبب انحيازه الأعمى إلى إسرائيل. تحوّل الغياب الأميركي معضلة بعد انهيار النظام الإقليمي وشيوع الخوف والإرهاب والتدخُّلات.
لا شيء يوحي بأن الشرطي الأميركي عائد إلى الشرق الأوسط. ربما تخفّف هيلاري كلينتون الميول الانسحابية إذا فازت. أما فوز دونالد ترامب فهو في حال حصوله، مشكلة للعالم قبل أن يكون مشكلة للشرق الأوسط.
يذهب الأميركيون إلى انتخابات الرئاسة ويأخذون العالم معهم. شاشات وحملات ومناظرات واتهامات وتبرُّعات. صحافيون ينقّبون بلا رحمة في تواريخ المرشحين. هذا لم يدفع الضرائب كما يجب، وذلك خان زوجته، وهذه استخدمت إيميلها على نحو غير مشروع. الرأي العام مأساة عامة. يهوى الفضائح ويتلذّذ بسقوط الضحايا. يغرق الأميركيون في التفاصيل ويغرق العالم معهم.
أميركا هي أميركا ولو تراجعت هالتها وشراهتها في إدارة العالم. من يخرج منتصراً من الصناديق سيتربّع على عرش استثنائي. الزر النووي في عهدته.
وهو القائد الأعلى لأقوى جيش في التاريخ. إننا نتحدث عن الاقتصاد الأول في العالم، وعن أرقى الجامعات ومراكز الأبحاث والفتوحات التكنولوجية. لكن العربي يشعر اليوم بأن أميركا بعيدة وأن المنطقة ستبقى حتى إشعار آخر متروكة للمبارزات الإقليمية وحروب المكوّنات والفتن العابرة للحدود. وثمة مَنْ يراهن على أن تؤدي شراهة القيصر إلى تذكير البيت الأبيض بأن أميركا بالغت في الاستقالة من مصير الشرق الأوسط .
* الحياة اللندنية