الهزيمة التي لا نخجل منها
الأحد, 26 يناير, 2020 - 08:06 صباحاً

إن الحقيقة التي نكره الاعتراف بها، هي في الحقيقة؛ أشد وجعا على قلوبنا من تلك التي نتحدث عنها بلا مواربات ولا مكابرة.
 
ومن الحقائق القاسية جدا..
حقيقة أننا نخسر كل يوم أكثر وأكثر..
 
نخسر أحلامنا وأيامنا، نخسر أعصابنا وماء وجوهنا، نخسر أنفسنا ودم أولادنا الذين يحافظون لنا على قليل من الشرف نزايد به أو نساوم عليه من خلف ظهورهم أو على جثثهم وجماجمهم..
 
نحن نخسر منذ سنوات..
نسخر صدقنا وثقة الناس بنا، نخسر الحرب والسلام، ونخسر اليمن..
 
اليمن التي أضاعها وقوفنا على الأطلال، وأضاعتها الانتصارات الافتراضية، وأضاعها الحقد والطبان السياسي..
أضاعتها أسوأ وأحط نخبة ثقافية وسياسية، وأضاعتها القيادة التائهة والنائمة ..
أضاعتها الانحيازات الصغيرة خلف الحزب وقادة الحزب وصحافة الحزب وممول الحزب وحسابات الحزب...
 
خلف شيخ القبيلة والدين، وخلف القائد العسكري ومناطقيته وخلفيته الفكرية وفساده المالي والإداري.. خلف القرية واللهجة، وخلف الشللية والشيلات..
 
خلف الدول ونوع العملة ونزوة الممول ولون الشاشات إن رمليا أو أزرقا وما إن كانت ترسم لنا خطوطا عريضة لخصامنا وطريقة تعاطينا مع بعضنا أو أنها تنتعل عقولنا وتحولنا إلى مسوخ.
 
لقد خسرنا كل شيء .. كل شيء..
 
لدرجة أننا لم نعد نجرؤ على رفع رؤسنا حين نواجه أنفسنا بالحقيقة في غرف نومنا المغلقة أو مرايانا المحطمة كالقلوب التي عادت من نهم بالهزيمة والخذلان.
 
لم نكن يوما أنفسنا، نحن دائما نخلع وجوهنا ونتقمص أقنعة غيرنا، نؤجر صورنا وأصواتنا وكلماتنا وأوجاعنا ودموعنا وأجسادنا وعقولنا من كل مستثمر دنيء..
 
نشمت من جثث أهلنا لكي يصفق لنا الغريب، ونفرط في كرامتنا وضمائرنا ومصيرنا من أجل تصفية الحسابات فيما بيننا وإثبات الطاعة والإخلاص لرأس الناقة أو ذيل الكلب حتى ولو على حساب أمهاتنا وأوطاننا المشطرة والمنهارة.
 
مع كل انتكاسة، تزيد الفجوة بيننا وبين صلوات أمهاتنا وهن يبتهلن من أجلنا لعلنا نستعيد لهن هدوء الليل ومصابيح الأمل وفرو السجادة ودفء البيت ونستعيد أرواحنا من شتات الغربة في المنافي ومن الغربة في المواقف ومن الغربة في الخصام ومن الغربة في الابتذال ومن الغربة تحت عقال الصحراء وعمامة المرشد وإبط الولي الفقيه ونظريات كارل ماركس وخطب جمال عبدالناصر.
 
نحن مصابون بأنفسنا لا بالآخرين، مصابون في صداقاتنا الشخصية وفي تحالفاتنا السياسية، مصابون في خطواتنا وفي أخطائنا، مصابون بحماقاتنا لا بذكاء أعدائنا، مصابون بالأحزاب قبل العصابات، وبالحكومة قبل الانقلاب، وبالجيش قبل الميليشيا، وبالقادة قبل الأتباع، ومصابون بالاستسلام لا بالهزيمة، ومصابون بالارتزاق لا بالاحتلال، ومصابون في الرجولة وليس في قلة الرجال.
 
كلما وثب فدائي ليحرسنا من الضباع التي نشترك في البكاء منها، تحولت أصابعنا إلى مسامير في طريق البطولة، وكلماتنا إلى رصاص في ظهر البسالة، ورحنا نستجر خلافاتنا لنكسر بها ظهر البطل، حتى لو كانت الخلافات ترفا رجعيّاً أو خطأً كتابيا في اسم الحزب.
 
لم نفكر يوما في الإجابة على الأسئلة المصيرية التي تقف على رؤسنا كقذائف العدو وقلق المنافي واحتمالات السقوط!
 
في حالنا يفترض أن نتلمّس أسئلة غير تلك التي تحاصرنا، أسئلة أكثر عمقا من تحليلاتنا للأحداث وتعاطينا معها، وأشد حساسية من علاقة الحزب بالحزب واليمين باليسار، والقصيدة الكلاسيكة بقصيدة النثر.
 
هل رأيتم فدائيا يهتف للانتماء وهو يلفظ أنفاسه، أو شهادة وفاة لشهيد مكتوب فيها كان المرحوم يمينيا أو يساريا، أممييا أو قوميا، علمانيا أو سلفيا؟!
 
هل تفرق في نظر الغزالة إن أكلها الذئب أو الصياد، أو إن دافع عنها كلب الراعي أو الراعي؟!
 
هل يهم غريق إن أنقذه الغواص أو الدلفين، وهل يهم البلاد إن رأت جنديا شريفا يحرسها أو مدرس رياضيات يسيجها بدمه ويرحل؟!
 
هل يهم المواطن المغلوب، حمل همّه متحزب أو فلاح، افتداه شاعر أو بائع كتب؟!
 
هل تسأل السماء عن ألوان قوس قزح كما نسأل نحن عن لون دم الشهيد وعن ملح طعامه واسم الجريدة التي يقرأ، والقصيدة المفضلة لديه، والأغنية الأخيرة التي سمعها، وإن كان مات أعلى الجبل أو أسفل الوادي؟!
 
هذه أسئلة شجاعة، ونحن أجبن من أن نقف أمامها ونراجع مواقفنا بناءً على قناعاتنا لا على الإملاءات واتجاه الريح وعناوين نشرة الأخبار في قنوات دول الخراب وتغريدة رب النعمة أو ناطق الحزب أو نباح الكلاب المسعورة.
 
نحن انهزاميون وانتهازيون، وإلا لما كانت خيباتنا أخطر الأسلحة التي أثخننا به الأعداء.
 
كيف إذن نريد من البطل أن ينتصر لأنانيتنا ونحن نتآمر عليه، نتهمه في دمه المشاع، نقطع أوصاله ونأكل لحمه نيئا قبل أن نكتب إلى أولاده برقية عزاء أو نقرأ في تأبينه قصيدة رثاء؟!
 
لقد انكسرنا في كل معاركنا، وخسرنا كل حروبنا، ليس لأن العدو أشد بأسا من أبطالنا، ولكن لأنه يشج هامات الأبطال بكلماتنا الحاقدة قبل أن يسحقهم بأضعاف أضعاف وقاحتنا من الحقد والبربرية، ويهجوهم بعويلنا ونباحنا قبل أن يهجم عليهم بالأفاعي والعقارب أو يحاصرهم بخيانة وجشع القادة والقوادين في صفوفنا الملغمة بنا.
 
إن هذا السحاق السياسي الذي يحكمنا ويتحكم فينا، لن يلد إلا مسوخا وأياما مشوهة بلا أطراف ولا شفاه ولا ملامح، لا يمكن أن تلد شرعية العار ولدا شرعيا وشريفا ولا يمكن أن تقوم للمستقبل قائمة برجال الماضي وبأحقاد الماضي وبأحزاب الماضي وبحسابات الماضي، إذ ليس من المنطق أن تزف فتاة عشرينية إلى ضريح كهل تسعيني، ولا من المنطق أن يكون الحقد ناطقا باسم الحزب، فوق أنه من المستحيل أن يقرأ بيان الانتصار في الغد، قائد لا يملك الشجاعة لأن يصارح شعبه اليوم بالهزيمة.

*نقلا عن صفحة الكاتب في فيسبوك.

التعليقات