فرضتِ الاحتياجاتُ القائمة للمشهد السياسي السعودي صناعةً للتحوّلات وبناءً للتحالفات وتصفيراً للمشكلات وإعادة تعريف النفوذ الإقليمي الذي تحرّكه القوى الفاعلة.
تمضي المملكة العربية السعودية في تسخير إمكاناتها السياسية والاقتصادية والجيواستراتيجية لإرساء شبكة متنوعة من التحالفات والتكتلات تعزيزاً لموقعها ودورها على الساحتين الإقليمية والدولية، وحماية لمصالحها في منطقة متحرِّكة تخبو فيها أزمة لتطفو أخرى، وسط صراع دولي محموم على تحديد مستقبل قيادة النظام العالمي بين عالم أحادي القطبية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية أو عالم متعدد الأقطاب.
وفي قراءة محللين سعوديين أنَّ الحالة السياسية الإقليمية والدولية دفعت بالسعودية نحو اتجاهات أكثر انطلاقاً. وفرضتِ الاحتياجاتُ القائمة للمشهد السياسي السعودي صناعةً للتحوّلات وبناءً للتحالفات وتصفيراً للمشكلات وإعادة تعريف النفوذ الإقليمي الذي تحرّكه القوى الفاعلة. واستفادت الرياض من التغييرات الكبرى، على وقع الغزو الروسي لأوكرانيا وارتداداته الاقتصادية والسياسية والإقليمية واشتداد معالم الاستقطاب. فرغم تحالفها مع الغرب، صاغت لنفسها موقعاً خارج الاصطفافات التقليدية، ما أعطاها هامشاً من الحركة متكئة على سياسة الانفتاح التي خطتها لتحقيق رؤية 2030.
وشكَّل الإعلان المفاجئ في العاشر من آذار/مارس 2023 عن عودة العلاقات السعودية – الإيرانية برعاية صينية، خطوة كبرى في عملية إعادة ترتيب الأوراق السعودية في المنطقة، بعد قطيعة بين البلدين في 2016 عقب إحراق البعثات الدبلوماسية السعودية في إيران على خلفية إعدام المملكة لرجل الدين السعودي الشيعي نمر النمر، عكست احتدام المواجهة على النفوذ الإقليمي مع تنامي الطموحات الإيرانية التوسعية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والتهديدات التي شكّلتها أذرعها العسكرية ذات المنشأ الديني العقائدي على الأمن القومي العربي عموماً والسعودي خصوصاً، وبرزت تجلياتها في الساحات المشتعلة، والتي كان اليمن مسرحها الأبرز، حيث قادت المملكة تحالفاً عسكرياً في العام 2015 دعماً للشرعية اليمنية في وجه جماعة الحوثي لوقف تمدُّد النفوذ الإيراني إلى الخاصرة السعودية.
كانت بوادر المفاوضات الدبلوماسية السعودية – الإيرانية قد بدأت في العام 2021 بوساطة عراقية لكنها أَينعتْ على يد بكين كضامن لاتفاق يُحقِّق مصالح الطرفين. إيران أرادته متنفساً لها في لحظة اشتدت فيها عزلتها الدولية وشهدت حركة احتجاجات عُرفت بـ«ثورة الحجاب» هزَّت أحد المرتكزات العقائدية للنظام، والمملكة الراغبة في إقفال ملف اليمن ودرء المخاطر عن أمنها القومي، تنتهج سياسة «تصفير المشاكل» لإنجاح رؤية 2030 وتحقيق طموح ولي عهدها محمد بن سلمان بجعل الشرق الأوسط «أوروبا جديدة».
لا يزال الاتفاق صامداً. وتبادل الطرفان فتح السفارات والزيارات على مستوى وزيرَيْ الخارجية، وأكدا في اجتماع ثلاثي لمتابعة التنفيذ، استَضافته بكين منتصف كانون الأول/ديسمبر، التزامهما الكامل بتطبيق الاتفاق، الذي يشمل تفعيل اتفاقية تعاون أمني موقّعة في نيسان/أبريل 2001 واتفاقية عامة للتعاون في مجالات الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب يعود تاريخها إلى أيار/مايو 1998.
تمَّ النظر إلى هذا الاتفاق على أنه باكورة النفوذ السياسي الصيني في الشرق الأوسط، وأنه الحدث الدبلوماسي الأبرز ما بعد الانكفاء الأمريكي، وأن تأثيراته الاستراتيجية على المنطقة ستصبُّ في مصلحة الصين وحلفائها من دعاة «التوجّه شرقاً» على حساب حضور أمريكا التي قررت في زمن باراك أوباما مغادرة الشرق الأوسط والاتجاه نحو شرق آسيا لمحاصرة المارد الصيني ومشروعه الاقتصادي «الحزام والطريق». ربما كانت هذه رغبة الصين وحلفائها، لكن استراتيجية الرياض لتوسيع تحالفاتها خدمة لمشروعها الاقتصادي الطموح، ولمصالحها على مفهوم الشراكة وتوظيف موقعها الجيو-سياسي على خارطة المحاور والممرات التجارية واللوجستية العالمية، دفعت بالسعودية إلى الإعلان، على هامش قمة «مجموعة العشرين» التي انعقدت في التاسع من أيلول/سبتمبر، عن أنها جزءٌ من مشروع إنشاء الممر الاقتصادي الطموح العابر للحدود، الذي سيربط الهند بالشرق الأوسط وبأوروبا عبر شبكة من السكك الحديدية والموانئ. الاتفاق الذي تدفع به الولايات المتحدة، وقّع عليه كل من الهند، والسعودية، والإمارات، والأردن، وإسرائيل، والاتحاد الأوروبي، ويرى الباحثون أنه لمواجهة مبادرة «الحزام والطريق» الصينية.
محادثات سعودية – إسرائيلية
ترافق حدث إنشاء «الممرّ الاقتصادي الهندي – الشرق أوسطي – الأوروبي» مع الكشف بعد أيام عن محادثات سعودية – إسرائيلية للتطبيع بين البلدين، ففيما كان ولي العهد السعودي يُعلن في مقابلة مع «فوكس نيوز» في 21 أيلول/سبتمبر عن أنَّ المملكة «تقترب كل يوم أكثر فأكثر» من تطبيع العلاقات مع إسرائيل، كانت الإدارة الأمريكية قد رتبت لقاءً في نيويورك على هامش أعمال الجمعية العمومية بين الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو للإعلان عن إمكانية إقامة سلام تاريخي بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية.
غير أن ولي العهد السعودي ربط «إنجاز التطبيع» بالتوصل إلى حل للمسألة الفلسطينية، وكانت المحادثات الأمريكية – السعودية تدور حول مطالب سعودية في مقدمها توقيع معاهدة دفاعية تلتزم بموجبها الولايات المتحدة بالدفاع عن السعودية أمام أي تهديد عسكري، على غرار البند الخامس في معاهدة «حلف الناتو» وتزويد المملكة بأسلحة أمريكية متطوّرة وأنظمة دفاعية مضادة للصواريخ الباليستية، وموافقة واشنطن وإشرافها على بناء مفاعل نووي مدنيّ، وتخصيب اليورانيوم على أراضيها.
قيل يومها أنَّ الرياض كانت تنسِّق على الدوام مع رئيس السلطة الفلسطينية في ما خص التوصل إلى حل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. وفيما تحدَّث بن سلمان في مقابلته عبر «فوكس نيوز» عن حل يُسهِّل حياة الفلسطينيين، كان وزير خارجيته يُشير إلى «حل الدولتين» في كلمته أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة.
كان من المؤكد أنَّ خطواتٍ كبرى على الضفّتين الإسرائيلية والأمريكية مطلوبة من أجل تحقيق هدف «التطبيع الكامل» أو بالحدود التي يمكن معها للسعودية أن تذهب إلى توقيع اتفاق «التحوّلات التاريخية» لكنَّ المؤكد أيضاً أنَّ اتفاقاً كهذا – وصفه ولي العهد بنفسه بأنه سيكون أكبر اتفاق تاريخي منذ الحرب الباردة – إذا حصل، لم يكن ليمر بسلام. فالمعسكر الآخر، مهما اتخذ من تسميات، كان لا بدَّ له من أن يضربَ ضربته. والضربة بالنسبة للمراقبين جاءت من خلال هجوم «طوفان الأقصى» الذي شنته حركة «حماس» في 7 تشرين الأول/أكتوبر ضد غلاف غزة، والذي ردَّت عليه إسرائيل بحرب تدميرية على غزة لم تنته فصولها بعد، ولا يمكن التكهن بنهاياتها ومآلاتها.
تحرَّكت السعودية بوصفها رئيسة القمة العربية، فدعت إلى قمة عربية – إسلامية استثنائية عُقدت في الرياض في 11 تشرين الثاني/نوفمبر بمشاركة أكثر من 57 دولة، وكان أبرز الحاضرين الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي الذي تبنّى قرارات القمة، فشكَّل موقفه اصطفافاً دبلوماسياً خلف القرار العربي.
على أن تداعيات حرب غزة تمددت إلى كل ساحات نفوذ إيران عبر أذرعها العسكرية، من جنوب لبنان حيث فتح «حزب الله» جبهة إشغال للجيش الإسرائيلي في الشمال، إلى الميليشيات العراقية التي تستهدف القواعد الأمريكية في سوريا والعراق، والأهم إلى الحوثي الذي يضرب الملاحة البحرية في البحر الأحمر. ويُعتبر أمن البحر الأحمر ركيزة أساسية من ركائز السياسات الداخلية والخارجية للمملكة، والاستقرار فيه ضرورة حيوية لجزء من مشاريع رؤية 2030 وفي مقدمها مشروع «نيوم» ما يُشكِّل تحدياً للرياض، وإنْ كان عنوان الاستهداف الحوثي هو السفن الإسرائيلية؛ والرهان على قدرة الصين في الضغط على إيران ووكلائها لتحييد المصالح السعودية، وتعامل الرياض مع أزمة البحر الأحمر على أنها مسؤولية دولية. وتفتح تحديات البحر الأحمر باب الأزمة في السودان حيث سعت الرياض إلى التوسط لحلها بدعوة الطرفين إلى محادثات جدة.
تميَّز العام 2023 بإعادة السعودية تطبيع علاقاتها مع النظام السوري من خلال دعوته إلى اجتماع القمة العربية في أيار/مايو، ما اعتبر فكاً لعزلة النظام. خطوة لم تلقَ استحساناً أمريكياً، لكن المملكة – في لعبة التوازن – دعت الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ليكون ضيف القمة وليلقي كلمة من على منبرها.
ولعبت السعودية دور وساطة بين موسكو وكييف لإطلاق سراح معتقلين من الطرفين. واستضافت محادثات سلام في شأن الأزمة الأوكرانية بحضور مستشاري الأمن القومي لنحو 30 دولة، من دون أن تُدعى إليها روسيا. لكن هذا لا يعني استبعاداً لموسكو التي حطَّ رئيسها فلاديمير بوتين، على وقع حرب غزة، في المملكة التي يرتاح إلى شراكتها في «أوبك بلس» ويطمح إلى ضمان مصالح أوسع له في الشرق الأوسط.
ودعت مجموعة «بريكس» المؤلفة من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، ست دول إلى الانضمام لعضويتها من بينها السعودية. وعزت القيادة المملكة الانضمام إليها إلى الحاجة لان تكون جزءاً من مجموعة داخل «مجموعة العشرين» تفادياً للعقبات الاقتصادية، دون أن يكون لهذا الانضمام علاقة بالتحالفات السياسة.
وفيما تواصل خططتها في إطار تحقيق رؤيتها التنموية الشاملة، تمكنت المملكة من تحقيق مكتسب وُصِف بـ«التاريخي» من خلال فوزها باستضافة معرض «إكسبو 2030» أكبر المعارض الدولية في الرياض.