بين فترة وأخرى تصلني رسالة من أكثر من جهة وشخصية، وتقريباً للمرة العاشرة، مفادها عن أصل تسمية تعز، ومن أين جاءت التسمية، وهذه الرسالة كما وردت: " تــعــــز" .
سبب التسمية
بعد أن قضى علي بن مهدي بن محمد الرعيني على دولة بني نجاح الحبشية وخلّص اليمنيين في تهامة من "شرورها"، أخذت قواته تجتاح المناطق الجبلية بقيادة ابنه عبد النبي حتى استولى على عُدينة (التي تسمى اليوم تعز، وكان اسمها عُدينة تصغير لعدن، لأن التجار العدنيون كانوا يتخذونها منتجعا سياحيا لهم)!
وقام ببناء قلعة القاهرة المطلة على عدينة، وانطلق منها نحو المناطق الشمالية يضمها إلى الدولة المهدية، حتى وصل إلى يريم وهناك انقادت له القبائل من كل حدب وصوب مرحبة به فأرسل قواته نحو الضالع والبيضاء ووصابين وعتمة في الوقت الذي حصّن يريم واتخذ لها ابواب منها باب ذو رعين (الذي تم تحريف اسمه لاحقا إلى "باب الظورين" ولا يزال يحمل الاسم المحرف حتى اليوم)، وكان السادة القُرشيين في صنعاء آنذاك يراقبون التوسع السريع لعبدالنبي بقلق بالغ واستشعروا خطر البعث الحميري باليمن في ظل الإسلام فأسرعوا الى صلاح الدين الأيوبي واشتكوا إليه شكوى مُرّة من أفعال عبدالنبي ويقال إنهم احرقوا شعور نسائهم أمامه وقالوا إن عبدالنبي ينتهك حرمة رسول الله بالاعتداء على نسائهم، وأغروا صلاح الدين بغزو اليمن ووعدوه بمساندة قواته بالمئونة اللازمة، ولاقت دعوتهم صدى في نفس صلاح الدين فقد كان يرغب في ضم اليمن إلى سلطانه، فحرك جيشا قويا لهذا الغرض، ولكن عبد النبي استطاع بقواته التصدي للجيش القادم من بلاد الشام ودحره وهزمهم شر هزيمة.
فأخذت العزة بالسلطان صلاح الدين فجمع جيوشاً ضخمة وأمّر عليها أخاه توران شاه ووجهها لتأديب عبدالنبي والاستيلاء على مملكته فانطلق هذا الجيش العرمرم ودارت بينه وبين قوات عبدالنبي معارك شرسة جعلت عبد النبي وقواته يتقهقرون نحو قلعة القاهرة وصمدوا فيها تحت الحصار المضروب عليهم مدة يصدون الجيش الأيوبي الذي وصله مدد آخر بقوات ضخمة، واستغل توران شاه ضعف قوات عبدالنبي نتيجة الحصار وتقدم نحو القلعة لاقتحامها مضحياً بالكثير من قواته، حتى اقتحمها وأمر عبدالنبي بالتسليم حقناً لدمه ودماء من بقي معه على أن يخرج من عُدينة هو وذريته ونساءه وحاشيته بثيابهم ومركوبهم فقط.. فنظر عبدالنبي إلى عُدينة وقال وهو مُتأثر اشد التأثر:
تَـعِــزُّ علينا ياعُـدينةُ جنةٌ
نُفارقها قَسراً وأدمُعنا تجري
فظن القائد الأيوبي أن عبدالنبي يقول"نفارق تعز" فأرسل إلى أخيه يقول لقد هزمنا عبدالنبي واستولينا على معقله " تعز"، فسُمِّيت "تـعـز" بهذا الاسم من ذلك التاريخ حتى اليوم.
الخلاصة: إن الكثيرين جدا من اليمنيين لا يعرفون سبب تسمية تعز بهذا الاسم ولا من الذي سماها".. انتهت الرسالة.
ردي على الرسالة
باختصار شديد: الحقيقة أن معلومات الرسالة قاصرة جداً ولا تمت لحقيقة التسمية بصلة، فلم يأتي مهدي بن مهدي للاستيلاء على تعز إلا والتسمية موجودة من قبله بقرون، وفي المصادر التاريخية كأول تسمية وردت لحصن تعز بهذا الاسم جاءت مع عبدالله بن محمد الصليحي الذي ولى أخاه أبا الفتوح حصن تعز، كما ورد ذلك في الكتب التاريخية وعلى رأسها كتاب(قرة العيون في أخبار اليمن الميمون: لابن الديبع الشيباني – صـ229)، وكان ذلك ما بين 480 – 485هـ، أما مهدي بن مهدي وأخوه عبدالنبي بن مهدي لم يظهرا في عدينة ويستوليا على حصنها (تعز) إلا سنة 561هـ.
تسمية "تعز"
"تعزّ" -بفتح التاء وخفض العين وتشديد الزاي مع الضم- هو اسم لذلك الحصن الواقع على تلة ذي عدينة على سفح جبل صبر (فقط)، كما هي أسماء حصون بقية اليمن (كالتعكر، والعروس، وذمرمر، وعزان، العزاعز، وغيرها)، إلا أن هذه التسمية طغت على "ذي عدينة" وأعمالها من المدينة القديمة أسفل ذلك الحصن فصار اسماً لها منذ بداية الدولة الرسولية، وتحديداً في عهد الملك الثاني للدولة المظفر- يوسف بن عمر بن علي رسول- صاحب جامع المظفر، الذي شهدت اليمن في عهده نهضة علمية قوية، وتوسعة نفوذ ممتد على كامل الجزيرة العربية حتى حدود مصر شمالاً والقرن الأفريقي جنوباً.
فما معنى اللفظ "تعز"، ومن أين جاءت تلك التسمية؟!
تذكر الروايات الشعبية المتواترة على لسان الأجيال المتعاقبة عن أن هذه التسمية جاءت على لسان امرأة من جبل صبر كان لها ابناً وحيداً مضطهداً في قومه قبل عصر الإسلام، فقالت له: "أنزل تعز": أي تخل عن هؤلاء القوم بنزولك إلى المدينة أو حصنها تعز نفسك منهم (تصير في مكانة عزيزة) عندهم وتصير عزيزاً شامخاً، ثم صار بعد ذلك يتداول الاسم على الألسن.
غير أن هذه التسمية والقصة ليست علمية ولا يمكن أن يسلم بها المنطق، وقد وجدنا إشارات وقرائن ترتقي إلى مستوى الأدلة على أن هذه التسمية لها مدلولات دينية ومكانية ذات منعة وحصانة.
فبالنظر إلى كثير من أسماء مكانية من ذات الاشتقاق للفظ "عز" نجد أن واقع حال الحصن (حصن تعز) ينطبق عليه الحال من المنعة؛ حيث إن كثيراً من قمم الجبال الشاهقة في محافظة تعز تعود للجذر اللغوي "عز"، وتسميت قمم جبال كثيرة بـ"عَزَّان" مثل جبل "عزان" في قدس، وعزان جبل من جبال مسراخ صبر، وعزان أيضاً في أكثر من قمة جبلية في اليمن.
و"عزان" تسمية لغوية يمنية قديمة بمعنى "العز" حيث إن الألف واللام في اللفظ للتعريف يقوم مقام (أل) التعريفية في العربية الفصحى، وجاء حرف التاء في بداية اللفظ من المضارعة التي تفيد الاستمرارية معرباً ليصير "تعز"، وإدخال التاء على الفعل أو الإسم في لغة المعافر يستعمل كثيراً وأكثره في المضارع.
أما الإشارة والقرينة الثانية فإن اسم "تعز" هو اسم علم لامرأة قديمة، وآلهة أيضاً، وقد ذكر نقش من النقوش اليمنية هذه التسمية (تعزين) أنها قدمت قرباناً للآلهة (عزين) لحماية (تعزين)، والنون في الأولى للتنوين، والثانية للتعريف.
(وأما عدينة تصغير لكلمة عدن وكان التجار العدنيون... إلخ معلومات قاصرة أيضاً).
فأسماء (عَدَن) و(عُدَيْنة) و(الْعَدَنَة) و(العُدَيْن) و(الْعُدْن) و(عَدِينة) أسماء كثيرة موجودة في اليمن الأسفل، ولها تعريفات مختلفة في اللغة العربية أو اليمنية المعافرية تحديداً، منها: المدينة على ضفة النهر (فجوار المقبرة والمدينة القديمة عدة سوائل وأنهار كانت تتساقط من جبل صبر)، ومنها المقبرة، ومنها المكان المستوي على سفح جبل، فعُدَيْنة تعز انطبق عليها كل التعريفات السابقة؛ المقبرة، وضفة النهر، والمكان على سفح جبل. اكتشفت كمقبرة من قبل الإسلام وبعده، وهذا وجدت لها دلائل مختلفة حتى أيام الأيوبيين والرسوليين بقية مقبرة (عُدَيْنة) لوحدها، وأضيف إليها "ذِي" من الأسماء الخمسة بمعنى (صاحب) و(الذي) أي: (صاحبة المقبرة، وذي المقبرة)، وأيضاً هذه تسمية حميرية تطلق على كثير من مناطق اليمن الأسفل كـ(ذي أشرق/يشرق) و(ذي الكلاع) و(ذي البرح) و(ذي الجمال)وغيرها، وهناك مقبرة ضخمة في جبل حبشي قديمة جداً لما قبل الميلاد تسمى (عَدِينة) بفتح العين وكسر الدال.
وانظر مواصفات مدينة عدن القديمة التي سميت بهذا الإسم تجدها في الوصف المكاني تشبه عدينة تعز فكلاهما على سفح جبل، أي أنها نسبت للمكان وليست لصفة الرجال أنهم كانوا تجار عدن... إلخ. ثم إن تكوين تعز بدأ قبل أن تعرف عدن، واستيطان تعز قبل عدن فكيف جاء التجار العدنيون إلى تعز، والنقوش القتبانية دليل على ذلك كنقش الحبيل الذي يذكر (حبلم) و(عسيفرن)؟!
أما بناء الحصن/القلعة فبناؤها منذ عهد القتبانيين (400 ق.م)، وهناك الكثير من الأدلة على ذلك، ولما غزا الأحباش اليمن ثلاث مرات قبل الإسلام استوطنوا الحصن وزادوا من تحصيناته وبناياته وترميماته، وكان يسمى حصن (ماوية)، ثم سكنه الصليحيون ورمموه.
بالنسبة لنهاية عبدالنبي بن مهدي فكانت نهايته معروفة بأن شنقه توران شاه الأيوبي بعد أن استولى على حصل تعز سنة 670هـ، ولم يفارقها قسراً أو يهرب منها كما ذكرت الرسالة أعلاه، وقيل قتله في المواجهة بينهما في زبيد سنة 569هـ.