[ الفنان آدم سيف المشهور بدحباش قدم أعمالا فنية عديدة ]
الثقافة هي المقياس لمدى نضج أو تدني وعي الشعوب أو الأفراد أو حتى الجماعات، وهي وعاء متعدد الأشكال والقوالب والهويات، ومنها ما دخل عليه التطوير، ومنها ما ظل جامدا، ومنها ما اندثر، ومنها ما استجد، إذ إنها مفهوم وسلوك يتطور، ويتحدث ويندثر أيضا.
وهي ذات تفسيرات عديدة، وذات أوجه متعددة، وبالتأكيد هي أيضا كسلوك انعكاس لماهية النظام السياسي الذي يحكم، في حال قراءتها سياسيا، وقد تعبر عن جموع داخل الشعب الواحد، ولا تعبر عن جموع أخرى في الشعب نفسه.
كان هذا مدخل تفسيري من وجهة نظر شخصية للحديث حول شخصيتين لها تأثيرها، الأول هو الفنان آدم سيف المعروف بـ"دحباش" على المستوى الداخلي في اليمن، والثاني على مستوى العالم، وهو الفنان البريطاني المعروف بـ"مستر بن" والرابط بينهما هو الفن كلون ثقافي.
يعود لدحباش الفضل في اليمن في إحياء الفن الساخر من الواقع الاجتماعي المعاش، وتحويل تذمر المجتمع من الهمس والتداول الشعبي إلى تجسيد ذلك في أعمال فنية تنقد تلك الظواهر، من خلال تجسيد المدير العام الفاسد، والتاجر الجشع، والمواطن الذي يدفعه فقره إلى الاحتيال على الناس، وانتهازية المجتمع أيضا.
كانت مثل هذه القضايا هي ما سلطت عليه أعمال دحباش الضوء في أجزائها الثلاثة، والتي بثت الأولى منها في التلفزيون الرسمي قبل عام من تحقيق الوحدة اليمنية، أو سبقت إعلانها بأشهر، ثم تلاه عملين إضافيين في عامين متتالين بعد تحقيق الوحدة خلال شهر رمضان.
كانت تلك المرة الأولى التي يشاهد فيها اليمنيون واقعهم يتجسد، ويشكو طغيان مثل تلك الظواهر، والأعمال برمتها كانت رسالة تدعو لعلاج مثل ذلك السلوك، وربما كانت فيها نوع من المبالغة في السخرية والتجسيد، ولكن ذلك هو طبيعة الفن الذي عندما يولد باردا مألوفا لا يغير من الواقع شيئا، ولا ينتج أي تأثير، وذلك أيضا طبيعة الفنان الذي يمنح مجتمعه وجمهوره الشيء الجديد، بمزيج من التجسيد للواقع، والتصور الأقرب للواقع، البعيد عن الخيال، والغائص في بيئته.
أحدثت تلك المسلسلات التي قدمها "دحباش" ردود فعل واسعة داخل اليمن، حتى أصبح اسم دحباش لا يعبر عن الفنان كشخصية، بل تطور ليصبح ظاهرة عرفت شعبيا بـ"الدحبشة" والتصقت بأشخاص أيضا ليعرفوا بأنهم "دحابشة"، وهم أولاد "دحباش" الذين كان يستعين بهم، كما جاء في أحد أجزاء تلك المسلسلات.
ميستر بن فنان بريطاني قدم العديد من الأعمال
كان النصيب الأكبر من التذمر في مدن الشطر الجنوبي السابق في اليمن، حيث تطور هذا المصطلح من "الدحابشة" والدحباشيين" و"الدحبشة"، ولا زال يتردد ويلوكه البعض حتى اليوم، وربما جاء هذا التذمر من كون أغلب تلك المشاهد التي كان يجسدها دحباش أو يتناولها لم تكن مألوفة لديهم، بحكم النظام السياسي الحاكم الذي كان يختلف عن الوضع في الشمال، والباعث للسخرية اليوم أنهم أصبحوا دحابشة أكثر من دحباش نفسه.
الأخطر في الأمر أن مسألة الدحابشة انتقلت من حيث كونها مجرد تعبير عن أشخاص معينيين لسلوكهم، إلى وسيلة من وسائل الشيطنة الجماعية، والاحتقار والاستنقاص، وذلك ما لم يكن متوقعا حتى لدى دحباش نفسه، عندما ابتدع لنفسه هذا الاسم.
وبعد توقف المسلسل التلفزيوني ومنع "دحباش" من الظهور، اتخذ من الأشرطة المسموعة وسيلة للبقاء مع جمهوره، وأطلق العديد من الألبومات الغنائية التي تطرقت لمختلف القضايا الاجتماعية، ولكنها بالتأكيد كانت خياره الوحيد للنضال أمام عتاولة فاسدين اصطفوا في خانة العداء لأعماله الناقدة، ولم يطيقوا بقاء ذلك اللون من الفن الغير معهود في اليمن.
لكن النظرة لهذا النوع من الفن الذي جسده "دحباش" نال حظه أيضا من الأذى في الشمال، فقد أدت الضجة الواسعة حوله إلى توقف بث المسلسل في التلفزيون الرسمي بعد أن آلف الناس ظهوره في رمضان لثلاثة مواسم متتالية، تطور خلالها بشكل كبير، واستوعب العديد من المتغيرات، وغطى الكثير من القضايا الاجتماعية.
فبعد توقف المسلسل لفترة طويلة أطل آدم سيف من جديد في عمل فني خلال العام 2003م تقريبا وجرى الاتفاق مع المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون في صنعاء على بثه، وكان يحمل اسم "طاهش وناهش"، وبعد الانتهاء منه فوجئ "دحباش" وطاقم العمل بوجود اعتراض من قبيلة في عمران تحمل لقب الطاهش أو ناهش (لا أتذكر تحديدا)، واعترضت على اسم المسلسل، وطالبت بعدم بثه، بحجة أنه يسيء لها ولاسمها.
ومن المؤسف أن المؤسسة العامة للإذاعة في صنعاء استجابت لذلك، وألزمت "دحباش" باعادة التمثيل، واستبدال كل كلمة "طاهش" أو "ناهش" نطقت خلال المسلسل إلى الاسم الجديد.
دفع ذلك فريق العمل للانتقال إلى صنعاء في محاولة لعدم الاستجابة لتلك الضغوط، والإبقاء على المسلسل دون أي استبدال، وأتذكر هنا أني التقيت أدم سيف وفنانين آخرين في صنعاء وهم يتابعون لدى الجهات الرسمية مناشدين عدم إدخال أي تغييرات، وكانوا قد اتخذوا من غرفة صغيرة في حي السنينة المطل على منطقة مذبح مقرا لهم، وكانت الغرفة تلك هي سكن شخصي لأحد أبناء دحباش الذي كان يعمل جنديا في الفرقة الأولى مدرع.
نقلتُ عن "دحباش" كثير من التصريحات أثناء متابعته ونشرت حينها في موقع الصحوة نت وصحيفة الناس أيام الراحل حميد شحرة (رحمه الله)، بدا خلالها آدم سيف يائسا من التعامل الذي تتصرف فيه الجهات الرسمية، وكان يدرك تمام الإدراك أن تلك الحجج المغلفة بالاحتجاج القبلي ليست سوى ذرائع لإيقاف بث المسلسل، الذي كلفه الكثير ماديا، وبدنياً بعد تعرضه لحادث أثناء التصوير في مديرية ذي سفال في إب.
لم أنسَ تلك الحالة النفسية التي كان يعانيها "دحباش" وهو يعبر عن صدمته وإحباطه من تعامل مختلف الأطراف معه، ووقوفهم حائلا أمام خروج العمل للنور، بعد الجهود الكبيرة والمضنية التي بذلها، ولا زلت أتذكر كيف أنه كان يبحث عن نافذة أمل تسانده وهو يتنقل بين برد صنعاء من جهة لأخرى، وفي كل نتيجة يصل لها يطلق فيها تصريح صحفي لعل أحدا أن يستجيب، ولكن دون جدوى.
لا أخفي أني كنت مفتونا بهذا الرجل وأنا صغير أتابع أعماله، وكنت في غاية السعادة وأنا ألتقيه أمامي، وذاك ما حمسني لنقل معاناته حينها صحفيا، وحصلتُ منه على عرض بمنحي أعماله الفنية السابقة في سيديهات، وهي تلك الأعمال التي ارتبطت في ذاكرتي بالعديد من المواقف، وأنا مع بقية نظرائي الصغار نجري من منزل لآخر لنشاهد تلك الحلقات بسبب عدم وجود تلفزيون حينها في منزلنا.
لم تفلح جهود "دحباش" في بث المسلسل، وانتصر لوبي القبيلة، وربما المناطقية، في منع بث المسلسل، وفق ما أتذكر، لكني حصلت على تلك السيديهات منه وفاء بوعده قبل عودته إلى تعز وقتذاك.
وعاود الظهور مجددا في العام 2012م، من خلال مسلسل جديد تم بثه على فضائية اليمن، بعد التغيرات التي شهدتها البلاد، عقب الثورة الشعبية، لكنه في كل الأحوال لم يكن في مستوى الحماس والتأثير الذي ظهر به في بدايات ظهوره، وربما يعود الحال إلى رواسب النظرة الضيقة التي أحدثها اسم "دحباش" وإلى انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي جذبت اهتمام المشاهد، وجعلته حرا فيما يرغب في مشاهدته، بعد أن كانت تلك المسلسلات حكرا على الفضائيات الرسمية.
وبكل تأكيد مثلت مدرسة "آدم سيف" النواة الأولى للمدرسة الفنية التمثيلية في اليمن، وتربع فريق التمثيل الذي ظهر مع "دحباش" في كل أعماله على عرش التمثيل والمسلسلات في اليمن حتى اللحظة، واستطاع "دحباش" أن يرسي مداميك هذه المدرسة التي انطلقت لاحقا في اليمن، بطريقة أو بأخرى، وإن كانت أقل حماسا وجرأة مما قدمه هو.
بل إن تلك المسلسلات الثلاثة التي قدمها تعد اليوم شاهدا تاريخيا يحاكم خصوم دحباش الذين دفعوه للتواري عن الجمهور بشكل قسري، فهي وإن انتهت زمنيا بمقياس الفعل لكنها لا زالت حية ببقاء تلك الظواهر نفسها، بل وبتفشيها بشكل أكبر، ومشاهدة واحدة من تلك الحلقات اليوم تستطيع أن تعطيك صورة واضحة عن حياة الناس في ذلك الوقت اجتماعيا، سواء من ناحية مظاهر الحياة، أو من ناحية بيئة المدن التي جرى التصوير فيها، ولم يطرأ عليها أي تغير كبير، أو من ناحية أسعار السلع والغذاء، وكيف كانت بالسابق، وكيف أصبحت الآن.
توارى "دحباش" لاحقا عن المشهد بشكل تام، وظهر في سنوات لاحقة، تقريبا في 2006م بصحبة الفنان فهد القرني، وقدما معا أعمالا تسجيلية (كاسيت) تتطرق لظواهر عديدة في المجتمع اليمني، ثم استقر به الحال ملحقا ثقافيا للجمهورية اليمنية في دولة البحرين.
كانت الحركات الساخرة والغير متوقعة والمضحكة في آن واحد هي الملفتة في أداء "دحباش" وتلك هي طبيعة الفن كما أسلفنا، وذلك ما جعل أعماله باقية ومتميزة، غير أن من المؤسف هنا أن أعمالا فنية مماثلة ظهرت في نفس الفترة التي ظهر بها "دحباش" كُتب لها الخلود والبقاء فترة أطول، مثل مسلسل "طاش ما طاش" السعودي، الذي عالج كثيرا من القضايا في المجتمع السعودي المعروف بالمحافظ أكثر من اليمن، وظل يتجدد ويعرض لأكثر من 14 سنة، رغم التحديات والعوائق التي واجهها.
نعود هنا للشخصية المقترنة وهي النجم البريطاني "مستر بن" واسمه الحقيقي "روان سيباستيان أتكينسون"، وظهرت أعماله مطلع التسعينيات، وهي ذات الفترة التي ظهر بها "دحباش" وهما يتطابقان في كثير من المواصفات، مثل أن كل واحد منهما كان المؤلف والممثل أيضا في آن واحد، إضافة لخروجهما عن المألوف، مع احتفاظ "مستر بن" بتميزه في تقديم العروض الصامتة، التي تعتمد على حركات صامتة أكثر من سيناريو نصي.
لا يوجد أحد في العالم اليوم لا يعرف "مستر بن"، ومثلما اكتسحت أعماله القنوات الفضائية حول العالم بمختلف اللغات التي تنطقها، بمثلما باتت أعماله خاصة الكلاسيكية اليوم خالدة، وتحظى بأعلى نسبة مشاهدات في موقع "يوتيوب" وهي المنصة التي دخلها "مستر بن" بشكل رسمي خلال العامين الأخيرين، وتسجل تلك الفيديوهات نسب مشاهدة عالية، يتجاوز بعضها الـ 30 مليون مشاهدة خلال عام واحد فقط.
بالتأكيد الجميع شاهد تلك الفيديوهات، وكلها تعتمد على فعل ما يبدو معاكسا لمفهوم المجتمع الكلي في تعامل أبنائه مع بعضهم، أو فعل شيء غير مألوف أو لا ينبغي أن يكون أصلا، فهو في مشهد يحتال على مريض ليصبح الأول في الصف بعد أن وصله متأخرا، وفي مشهد آخر يتصرف بسذاجة غير متوقعة، أو بانتهازية طافحة، فهل بالإمكان اعتبار تلك الحركات التي أداها "مستر بن" في أعماله الكلاسيكية تحديدا تعبر عن نزق المجتمع البريطاني، أو تسيء له، أو تعكس صورة سلبية عنه؟
بالتأكيد لا، فقد ظلت قائمة، وتتلقفها الأجبال جيلا بعد آخر، وتعد اليوم أحد أهم مصادر الكوميديا العالمية الساخرة والطريفة، رغم أنها واجهت أيضا انتقادات في المجتمع البريطاني.
وبعكس شخصية "دحباش" التي خذلت من جميع النخب في اليمن، انتفض "مستر بن" مع نقاد وكتاب وممثلين في وجه القوانين التي كان يراد لها أن تحد من حرية الفن في بريطانيا، وتوجهوا إلى البرلمان البريطاني في محاولة لإجبارهم على مراجعة مشروع قانون تجريم الأشخاص الذين يحرضون على الكراهية على أساس ديني أو عنصري، وكان "مستر بن" وجماعته يشعرون أن هذا القانون سيعطي المجموعات الدينية سلطة تتيح لها فرض رقابة على الفنون.
ومثلما واجه "دحباش" نفوذ القبيلة والدولة، واجه أيضا "مستر بن" نفوذ رجال الدين وغيرهم، والفارق بالفعل يبدو كبيرا في النتيجة.
للمفارقة هنا فمثلما انتقد "دحباش" في أعماله الفنية شخصية المدير العام الذي أصبح فاسدا، ومحتالا، ولايقوم بمهمته على أكمل وجه، فقد عانى لاحقا في الواقع من شخصية المدير العام الذي منع ظهور مسلسله.
"مستر بن" الذي جسد العديد من الأدوار خارج المألوف كما أسلفنا، تعرض لموقف طريف، فعندما ذهب في إجازة إلى كينيا في العام 2011م، أغمي قائد الطائرة الخاص به، وتمكن "مستر بن" من الحفاظ على الطائرة في الهواء بهدوء لعدة دقائق حتى استعاد الطيار وعيه وتمكن من استعادة السيطرة على الطائرة.
خلاصة القول إن الثقافة في اليمن بالرغم من نشأتها المبكرة إلا أنها اصطدمت بالعديد من العوامل التي قلصت من دورها لصالح الدور الرسمي البحت، فانتصر أعداء الثقافة وأحبط أنصارها، وكان هذا والدولة لا زالت قائمة، فكيف سيكون الحال والدولة مشلولة وغائبة كليا في الوقت الراهن.
بعد وصوله سن الخمسين بدأ "مستر بن" بتقديم أعمال فنية كشخصية كرتونية، بينما توارى عن المشهد الثقافي والفني بشكل تام "دحباش".
المجد للثقافة وأنصارها ووجوهها، والخسارة والعدم لأعدائها.