[ تطرقت الحلقة للعديد من المواضيع والقضايا في تعز ]
في صيف 1975م، انتظرتُ التوزيع المركزي لمخرجات المعهد العام، فكان توزيعي في تعز، وكنت بانتظار التوظيف الرسمي، لكن اللجنة العليا للتصحيح ألغت الخدمة المدنية وأوقفت التوظيف، حتى يتم إنشاء ديوان الموظفين العام، وما علينا إلا الانتظار.
كنتُ موعود، بتوقيع عقد عمل مع صحيفة الجمهورية، واشتغلتُ في العمل الصحفي، على رائحة هذا العقد، إذ رافقتُ حملة تيسير الزواج مع مدير عام مكتب العدل في تعز القاضي قاسم السياغي، وكان معنا من جمعية المرأة فوزية الشميري، وسعاد العبسي، حيث عملنا مهرجانات خطابية في الراهدة والتربة والمخا.
وكانت حملات تيسير الزواج، بناء على توجيهات الرئيس إبراهيم الحمدي، الذي عارض مطالب رجال دين، وقيادات إخوانية، بإصدار قانون لتحديد المهور وتخفيض نفقات الزواج، لتحصين الشباب.
إبراهيم الحمدي
وقال لهم الحمدي، إن هذه الأمور لا تعالج بقانون إنما بتوعية الشعب، كون الزمن متغير ولكل منطقة أعرافها، وإذا كانت امرأة قد أفشلت عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في تحديد المهر فالحمدي ستفشله مليون امرأة.
اقرأ أيضا: مقبل نصر غالب يتذكر: كنتُ وكانت تعز .. ذكريات عن الدور المصري والزخم الثوري والمركز الإسلامي
وكانت وجهة نظر الرئيس الحمدي، هي تسيير قوافل توعية بالاشتراك مع القضاء وجمعيات المرأة، ولاحقا عمد الحمدي اتفاق المشايخ بتحديد المهور.
القائد نعمان قاسم
خلال عملي الصحفي، رافقتُ محافظ تعز عبدالسلام الحداد، لافتتاح مدرسة في بني شيبة، رغم أن لديه مرافق صحفي "زيد الغابري"، وأثناء الافتتاح قابلتُ النقيب نعمان قاسم حسن، قائد منطقة التربة، وسمعنا الناس وهم يثنون على جهوده في متابعة تنفيذ المشاريع، وإشراك الجنود في أعمال مدنية.
النقيب نعمان قاسم حسن
ونعمان قاسم حسن، من أبناء قريتي، وأكبر مني بثلاث سنوات تقريبا، وكان طفلا شجاعا ومغامرا، وفي شبابه عمل في عدن، منها الاشتغال مع والدي في محل بيع الفواكه، وعندما بدأت موجة النزوح من عدن، غادر معظم أبناء القرية، للاغتراب في السعودية، لكن نعمان، ذهب وتجند في المظلات، ونظرا لشجاعته وشخصيته القوية، ترقى في السلك العسكري.
اقرأ أيضا: مقبل نصر يتحدث عن: إنشاء منتزه تعز وأول انتخابات نيابية وجدل إنشاء البنك المركزي
وانتمى لاحقا للحزب الاشتراكي اليمني، وكان على علاقة جيدة مع عدن، وبعد أحداث التربة، التي لازال يكتنفها بعض الغموض، والتي كانت لها تداعيات سلبية على اليمن كلها، غادر نعمان إلى عدن، وتلقى دورات تدريبية في موسكو، وتقلد وسام الثورة من المناضل عبدالفتاح إسماعيل، وبعد الوحدة اليمنية، اغتيل في محافظة إب، من جملة القيادات الاشتراكية، التي تعرضت للاغتيال، في تلك الفترة.
مهرجانات مع الحمدي
وخلال عملي الصحفي، حضرتُ مهرجانا خطابيا في مدرسة الشعب، وفي المهرجان ضحك الرئيس الحمدي، ضحكة مجلجلة، عندما بدأ عضو في منظمة التحرير الفلسطينية، كلمته، بالترحيب بالحاضرين، بالقول: (الأخ رئيس مجلس القيادة، المقدم إبراهيم الحمدي، الأخ محافظ تعز عبدالسلام جلود)، وتعالت الضحكات، حتى صحح اسم المحافظ.
وحضرتُ احتفال عيد الثورة في ميدان الشهداء، وكان الرئيس الحمدي موجود، وقد تألق الشاعر علي بن علي صبرة، بقصيدة قال فيها:
ذكراك مذ أن كنت أمشاجا بأرحام الطلائع
ذكر الغد الموعود سبح باسمه لهب المواقع
فأطل والخضراء تحضنه بأعناق المدافع.
وقدم الفنان الكبير علي بن علي الآنسي، أغنية:
في الشمال والجنوب
أمة ووحدة تجمع القلوب
تجمع القلوب
وحضرتُ حفلا فنيا ساهرا في منتزه تعز، وكان الحمدي، في مقدمة الصفوف، وغنى الفنان أيوب طارش عبسي، الأغنية الوطنية، لأول مرة، رددي أيتها الدنيا نشيدي (النشيد الوطني حاليا)، فقد كان حينها النشيد الوطني "في ظل راية ثورتي أعلنت جمهوريتي"، وغنى علي الآنسي، وفي هذا الحفل قدمت مسرحية "الطريق إلى مأرب"، وبطلتها أمة العليم السوسوة.
عبدالكريم الإرياني
وقمتُ أيضا بجولة استطلاعية صحفية في حبيش، وحزم العدين، بإب، وكتبتُ عن هذه الجولة، في صحيفة الجمهورية، ومع ذلك لم يصل عقد العمل مع الصحيفة من وزارة الإعلام، ولم يحصل التوظيف الرسمي مع التربية والتعليم، والعام الدراسي الجديد قد بدأ.
مكتب التربية تعاقد معي لتدريس الرياضيات، في معهد التأهيل التربوي، بنظام الحصة، والحصة بعشرة ريالات، وكان ذلك نعمة وخير وبركة، وقد أصبح للمعهد باص يأخذ الطلاب من المدينة إلى المعهد، وأنا اركب مع طلابي ذهابا وإيابا، وفي المعهد مدرسون سعوديون لديهم سيارات خاصة، يتجملون أحيانا بتوصيل بعض الزملاء، بل وقرر المعهد عمل رحلة إلى الحديدة، ورفض السائق، أن يقود الباص، فقاده مدرس سعودي.
اقرأ أيضا: مقبل نصر غالب يسرد ذكرياته عن بدايات التعليم في تعز ورد المخلافي على مذيع في عيد الثورة
رحلة التوظيف الرسمي
مرت ثلاثة شهور والمتعاقدون بلا مرتبات، والأستاذ خالد محمد سعيد، مدير عام التربية والتعليم، لم يكن الأمر بيده، لأن الاعتمادات ما نزلت من صنعاء، فقمتُ بتحفيز المتعاقدين للخروج بمظاهرة، وخرجنا نحو المحافظة.
استقبلنا مدير الأمن المقدم محسن العلفي، وطلب تشكيل لجنة للتفاهم معه، فكنتُ واحدا من خمسة شرحت له الوضع، فأجرى اتصالاته وحضر مدير الأمن الوطني المقدم أحمد عبدالرحيم أحمد، وطلب منا إبلاغ المتظاهرين بالعودة إلى منازلهم مقابل صرف المعاش خلال 24 ساعة.
وخرجنا للمتظاهرين وأبلغناهم بالخبر السعيد، وفعلا ثاني يوم جرى صرف المرتبات في صالة مدرسة الشعب، بإشراف مدير الأمن الوطني، على مدى يومين.
ومضى نصف العام الدراسي، ولم يتم التوظيف الرسمي، وهذا يعني تأخر الالتحاق بكلية التربية عام دراسي، لأن الالتزام بالتدريس عامين كاملين بعد الدبلوم من تاريخ التثبيت في الوظيفة، كي نحصل على إجازة دراسية مع استمرار الراتب، إضافة إلى السكن والغذاء في كلية التربية، ومكافأة مالية قدرها ألف ريال شهريا.
أيوب طارش عبسي
واستبشرنا بإعلان الديوان العام للموظفين وقانون تنظيمه، وتعين رئيس الديوان أحمد حسن صبرة (كان مدير معاهد التأهيل في وزارة التربية)، لكنه أعلن البدء بدراسة الملفات التي عنده.
وبعض الزملاء في الدبلوم قرروا السفر إلى صنعاء، لإحراج صبرة، بتمرير معاملاتنا، وجمعنا لهم مبالغ مالية مقابل المهمة، فذهبوا ودبروا أنفسهم، وجرى إرسالهم المحافظات التي توزعوا فيها، وذهبت فلوسنا أدراج الرياح، فقلت يومها:
من قال في الدبلوم عيش أسعد
وهو التعاسة والظلام الأنكد
اقرأ أيضا: مقبل نصر يتحدث عن وفاة المخلافي وسقوط صعدة بيد الملكيين واعتقال ياسين عبدالعزيز
منحة دراسية إلى الأردن
انتهى العام الدراسي، وامتحنتُ طلابي وصححتُ أوراقهم، وسلمتُ درجاتهم إلى إدارة المعهد وأخذت إخلاء طرف، وسافرتُ إلى صنعاء، كي أراجع على التوظيف، وأكثر من ثلاثة أسابيع وأنا أتنقل بين الصحة والأمن الوطني والوزارة، وجهزتُ ثلاث ملفات، الأول للوزارة، والثاني لديوان الموظفين، والثالث لمكتب تعز.
وحين طلبتُ مذكرة إلى الديوان العام، قالوا إن جميع الدرجات الخاصة بتعز استلمها مدير عام التربية والتعليم خالد محمد سعيد، وسيوزعها بطريقته، وأنت بين خيارين، إما نمنحك مذكرة إلى تعز لتحصل على درجة من الدرجات التي أخذها، أو تختار محافظة أخرى، وممكن نعطيك درجة، وتمشي المحافظة أي وقت.
قلت لهم "خالد حبيبي" هاتوا لي مذكرة، فصاغوا لي مذكرة وعدتُ إلى تعز، وذهبتُ إلى الأستاذ خالد، بالملف والمذاكرة، فقال "قد تم توزيع الدرجات، أنا ظنيت إنك قد دبرت نفسك".
تدخل الأستاذ أحمد خالد الشرعبي، وقال: "ليش ما أخذت درجة إلى إب والعام القادم تنقل إلى تعز"؟، فقلت له "أنا انتظر أتعين هنا مدير مدرسة، هل أذهب إلى إب، وابدأ التدريس من جديد"؟
اقرأ أيضا: مقبل نصر في حلقته السادسة يكتب عن: مواقف من حياة البيحاني والفريق العمري واغتيال مشائخ خولان
عدتُ للوزارة مرة ثانية، وقابلتُ وكيل الوزارة للشئون المالية علي الرزاقي، وقلت له "ما عندي استعداد أضيع عام دراسي بسبب خارج عن إرادتي، إما تسمح بدخولي كلية التربية من الآن، أو تصرف لي مرتبات سنة كاملة وتعتمدها من الخدمة، فلا أخدم بعد التثبيت غير سنة فقط".
وعُرض الأمر على وزير التربية الدكتور عبدالكريم الإرياني، فقال إن أنظمة المعاهد في كثير من الدول العربية، إذا لم يتم توظيف الخريج خلال عام من تخرجه يكون في حل من الالتزام.
فقال لي الرزاقي، خذ لك منحة وسافر خارج البلاد، وأمر بإطلاق سراح الشهادتين، وإكمال معاملة المنحة في مجال التربية والتعليم، وكانت المنحة إلى الأردن.
جدل حول مسابقة طلابية
جهزتُ ملف المنحة، وسلمته إلى إدارة البعثات في الوزارة، وعدتُ إلى تعز، بانتظار إعلان إذاعة صنعاء، عن موعد السفر، في حال وافقت الأردن، وقد وصلت تعز، أثناء توزيع لجان امتحانات الابتدائية العامة، واسمي رئيس لجنة مركز الكرابدة في ميراب بشمير.
وبعد المهمة نشرتُ في صحيفة الجمهورية مقالا عن المنطقة، وأبلغتُ رئيس تحريرها محمد حسين السنيني، عن احتمال سفري إلى الأردن، فقال لي "نعمل لك عقد مراسل صحفي، وتكون توافينا بالموضوعات من الأردن أسبوعيا".
محمد محمد قحطان
فقلت له: أين العقد الأول عن العمل في الصحيفة؟ فرد: "ما نزلت من صنعاء كل العقود مش أنت بس، مثلك عبدالملك المخلافي (أمين عام الناصري بعد الوحدة)، وشرف محمد عبده، و.... إلخ".
وكان أجمل ما في هذا العام الدراسي 75-1976، هي المسابقات الثقافية التي كانت تجري بين المدارس، ومنها مسابقة جرت بين طلاب الثورة الثانوية، ومعهد التأهيل التربوي، على مستوى الثالث ثانوي، وقد مثل جانب المعهد محمد محمد قحطان (فك الله أسره) وأربعة معه، ومثل جانب الثورة ناصريون، والذي يدير النقاش والتقييم خبير مصري.
ورغم أن إجابات طلاب المعهد كانت سريعة وكاملة، بخلاف إجابات طلاب الثانوية، إلا أن الخبير المصري، أعلن أن الدرجات متساوية، وعمل قرعة لصالح طلاب الثورة، فشعر طلاب المعهد، بغبن شديد، وطالبوا بتغير الخبير لأنه غير محايد، وإعادة المسابقة من جديد، وانتقل الصراع حول هذه المسابقة إلى الصحيفة، حيث دخلت أنا وطلاب الثورة في معركة نشر وردود، حول انحياز الخبير المصري للطلاب الناصريين، وأحقية فوز طلاب المعهد.
يتبع في الحلقة القادمة.
*خاص بالموقع بوست.