[ الشلفي مع الرئيس هادي ]
فكرت طويلا بعد لقائي الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي بشأن الإجابة عن السؤال: هل من الضروري كتابة شيء بعد اللقاء الذي جرى بيننا في قصره بالرياض؟ فاللقاء الذي استمر أكثر من ساعة، جاء وديا وتم بعفوية من دون تخطيط مسبق.
كما كان مع ذلك فرصة لمعرفة الرجل عن قرب، خاصة بعد قراره المفاجئ والمدوي بإقالة نائبه ورئيس حكومته خالد بحاح.
والأرجح أنها كانت فرصة مناسبة جدا لأي صحفي للحديث عن قرب إلى الرجل الذي اتخذ قرارًا على هذه الدرجة من الأهمية والخطورة، ومعرفة الدوافع التي حملته على المجازفة بالذهاب في هذا الاتجاه في ظرف بالغ الخطورة والحرج.
لكن ذلك ليس وحده ما دفعني لاقتناص فرصة جاءت مصادفة، وطلب اللقاء مع الرئيس هادي أثناء زيارتي السريعة للعاصمة السعودية الرياض التي استمرت يوما ونصف يوم فقط؛ فالرجل الذي سأقابله هو نفس الرجل الذي ظللت طيلة العامين الماضيين، أرقب حملات شعواء يشنها ضده أعداؤه وأصدقاؤه على حد سواء.
صور وانطباعات
فهادي في أوساط النخب وكثير من الناس في اليمن وربما متابعي ما يدور فيه، هو الرجل الضعيف المتردد المتآمر والحاقد في آن واحد. هكذا صوره إعلام الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، وإعلام كثير من شركائه السياسيين، الذين لم تكن تروق لهم طريقته في إدارة شؤون البلاد.
وعموما فقد أصبح من الصعب الدفاع عن هذا الرجل، ليس لأنه رجل لا يستحق الدفاع عنه، ولكن لأن الحملات التي أديرت ضده استطاعت أن تشيطنه إلى درجة أصبح من الصعب معها الدفاع عنه.
وهذا بالضبط ما قلته لبعض الأصدقاء أثناء جلسة بُعيد صدور قرار هادي بإقالة بحاح وتعيين خلفه. قلت لهم إن من أصعب المواقف التي يمكن أن يمر بها أي شخص الآن، أن يجد نفسه مضطرا للدفاع عن الرئيس هادي. فما إن تفتح النقاش حول هذا الأمر، حتى تجد الأبواب كلها مغلقة أمامك والرماح مصوّبة إليك.
ولدى الكثير من المغرمين بتعداد تلك المواقف، فإن هادي هو الرجل الذي طرد آلاف السلفيين من دماج، لصالح الحوثيين بصعدة.
وهو الرجل الذي عندما احتل الحوثيون محافظة عمران وقتلوا قائد اللواء 310 حميد القشيبي، عاد إليها مرة أخرى ليقول إن محافظة عمران، البوابة الشمالية للعاصمة اليمنية صنعاء، عادت إلى حضن الدولة.
وهو في رأي الكثيرين من تواطأ مع الحوثيين لإسقاط صنعاء، من أجل ضرب خصومه من بيت الأحمر، ولشل حركة حزب الإصلاح "الإخوان المسلمين".
هذا إلى جانب الكثير من الاتهامات التي حاول الرئيس هادي دفعها عن نفسه في مقابلات عديدة، لكنه لم ولن يستطع، والأحرى أن يترك ذلك للتاريخ وذلك ما قلته له في آخر حديثي معه.
إخفاقات ونجاحات
لم أحمل بالطبع أسئلة للرئيس هادي، فلم يكن الغرض إجراء مقابلة صحفية معه، ولا مواجهته بإخفاقاته التي يعددها الإعلام اليمني والناشطون بشكل يومي.
في المقابل صفق الناس لهادي عشرات المرات، وأذكر جيدا ذلك اليوم الذي أقال فيه النظام الأمني والعسكري من أسرة الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، ومن بينهم نجله أحمد الذي أطاح به هادي من قيادة أهم جهاز عسكري وهو الحرس الجمهوري، كان ذلك في أواخر عام 2012 وكنا جميعا نشعر بالقوة عندما فعل ذلك.
قال لي أحد السياسيين اليمنيين الذين تعاملوا مع هادي: "إنه يمزق الأعصاب"، جاء ذلك في معرض حديثه عن بطء الرجل في اتخاذ القرارات، لكن نفس الأشخاص الذين كانوا يعبرون عن ضيقهم بصبر هادي وبطئه، كانوا يقولون أيضا "إنه في نهاية الأمر يتخذ القرارات عندما يصبح ذلك لازما".
ولن أجعل مناسبة اللقاء بالرئيس مادة لتوريطي في الحديث عنه أو كيل المديح له، وهو بالتأكيد رجل يصيب ويخطئ وتلك بالتأكيد سمات وملامح أي حاكم، فما بالك بحاكم جاء بعد الإطاحة برجل ظل يحكم اليمن 33 عاما، ولا يزال يعيش في أوساط من أطاحوا به متكئا على رصيد يقدر بنحو ستين مليار دولار كما قالت الأمم المتحدة، وعلى ميراث من العلاقات داخل المؤسسات العسكرية والمدنية والقبلية، بالإضافة إلى طموح مجنون في العودة إلى السلطة مصحوب بدعم وتغاضي دول كثيرة.
"لن أجعل مناسبة اللقاء بالرئيس مادة لتوريطي في الحديث عنه أو كيل المديح له، وهو بالتأكيد رجل يصيب ويخطئ وتلك بالتأكيد سمات وملامح أي حاكم، فما بالك بحاكم جاء بعد الإطاحة برجل ظل يحكم اليمن 33 عاما"
لقاء وأفكار
عندما استقبلني الرئيس في قصره بالرياض، اعتمدت على ذاكرتي في تسجيل اللقاء ولم يخطر ببالي كتابة أي شيء، لكنني قلت لنفسي وأنا معه: لعل اللقاء سيكون مادة جيدة فيما بعد للحديث عن الرجل اللغز بالنسبة للناس.
فهادي رجل صامت ونادرا ما يتحدث للإعلام أو يقيم جلسات خاصة مع الصحفيين، ربما لأنه يفتقد إلى تلك المهارة، أو لأنه لا يحب الإعلام.. عمومًا ليس هذا مجال مناقشة عدم قدرة الرجل على الحديث إلى وسائل الإعلام كما عرف عنه ولوحظ عليه.
السابعة والنصف مساء بتوقيت العاصمة السعودية الرياض.. لم تكن هناك إجراءات سوى طلب بطاقتي الشخصية وبطاقة السائق، قبل أن أدلف إلى القصر وأنتظر دقائق قليلة، ثم أصعد إلى الدور الثاني لأقابل الحراسة الأمنية ويرافقني أحدهم ليدخلني إلى الغرفة الواسعة التي كان يجلس فيها الرئيس بمفرده.
وقف الرجل ليصافحني ثم جلسنا.. سأل عن أحوالي بسرعة ووجدتها مناسبة لأعود به إلى عام 2011، وعندها بدأ الحديث الذي استغرق أكثر من ساعة.
لربما كان ما يقوله الرئيس عن تلك الفترة معلوما لدي، خاصة عندما كان يحدثني عن رفضه أمام مجلس الدفاع الوطني الذي كان يرأسه الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح في عام 2012، قصف ساحة التغيير بصنعاء، وجهده في أن يجنب مع الأحزاب السياسية البلاد ويلات الحرب من خلال صياغة المبادرة الخليجية.
حديث ومعلومات
لكن حديث هادي ذاك أكد لي عرضا ما هو معروف لدى اليمنيين جيدا عن شخصية صالح، وهو أن الرجل كان يستمتع بإذكاء الصراعات والنزاعات والعداوات بين الآخرين. بل إن منصور هادي قال لي عندما استفسرته بشكل مباشر عن صفات صالح، إن طباعه الشخصية أسيرة نزعتين، العنف والحقد على الآخرين.
قال هادي إن الرئيس المخلوع كان يأمر العاملين في مزرعته بجلب جملين قويين، حتى يستمتع بالصراع العنيف بينهما. وأضاف هادي أنه عندما كان يطلب الإذن بالانصراف، يصر صالح على بقائه لمشاهدة صراع الجملين، وتلك كانت متعته الدائمة.
وعلى عكس شعور الآخرين بأن بقاء هادي نائبا لصالح سبعة عشر عاما كان دليلا على ضعفه، فإن الرجل يرى أنه استفاد كثيرا من تلك المرحلة، التي وقف خلالها مناهضا لصالح في قضايا كثيرة، يتعلق بعضها بالمحافظات الشمالية، وبعضها بمحافظات الجنوب.
ويؤكد الرئيس أنه حاول أكثر من مرة إصلاح أوضاع الجنوب وحل قضايا الأراضي والعسكريين الجنوبيين، لكن علي صالح حال دون ذلك في نهاية الأمر لأنه لم يكن يرغب فيه أبدا.
وهناك الكثير من الحديث الذي لا يتسع الوقت ولا المناسبة لذكره هنا غير أن الوقت القصير الذي حاورت فيه الرئيس جعلني أشعر بأن هذا الرجل السبعيني القادم من جنوب اليمن ومن محافظة أبين بالتحديد يعرف البلاد جيدا وخبير بتناقضاتها الجغرافية والمذهبية ويملك الإجابة عن السؤال الأهم وهو: لماذا يحدث ما يحدث الآن في اليمن؟
قضايا وشهادات
يحاول هادي أحيانا أن يصمت وخاصة في القضايا التي يعرف أنها قد تسبب إشكالا غير أنه يعرف بالضبط وجهته وهي: يمن اتحادي ودولة بأقاليم والعودة إلى مسودة الدستور المنبثقة عن المبادرة الخليجية لوضع اليمن مرة أخرى على طريق الاستقرار، كما يقول.
كنت أتطلع إلى تغيير مسار الحديث نحو الحاضر بعد مرور الدقائق الـ15 الأولى من اللقاء ولكن دون جدوى، بسبب تدفق الرئيس في الحديث عن المرحلة التي أعقبت ثورة التغيير 2011.
وقد عرج هادي بشكل سريع على محاولة اغتيال صالح في مسجد دار الرئاسة بصنعاء عام 2011، وكيف أنه نجح في السيطرة على الأوضاع ومنع أبناء صالح من إحداث فوضى كانوا يعتزمون نشرها في البلاد.
أسعفني اتصال هاتفي استمر خمس دقائق في تغيير مسار الحديث.. لم يخرج الرئيس لإجراء تلك المكالمة أو يطلب مني الخروج.. كنت حاضرا وكان الطرف الآخر يتحدث من واشنطن. فهمت من الحديث أن هناك حوارات حول قرار إقالة خالد بحاح.. كان الرئيس متوترًا نوعا ما، وكان يستمع إلى الطرف الآخر باهتمام.
أنهى هادي الاتصال ووجدتها مناسبة للحديث عما يدور الآن.. تحدث الرجل عن نائبه السابق.
أسئلة وتفاصيل
طرحت أسئلة عن صحة ما يقال عن بحاح وسعيه الدائم للتواصل مع الحوثيين، مدفوعا بحلمه بالسلطة، وكان هادي حريصا على كلماته لكن استعراضه لعام من الخلافات مع خالد بحاح كان يخفي وراءه تفاصيل للتباين الواضح في وجهات النظر بشأن الصلاحيات والسياسات والعلاقات وشكل الدولة عموما.
سألت منصور هادي عن التنسيق مع حلفائه في إصدار مثل هذه القرارات، فقال إنه ينسق مع السعودية والدول الأخرى في كل شيء، لكنه قال أيضا إن القرارات التي اتخذها هو، تنطلق من مصلحة اليمن وحلفائه وتتسق معها.
بدا لي من خلال حديثه الذي تعمد أن يكون مهذبا ودبلوماسيا، أن الرئيس أراد أن يقول لي إن مسألة إصدار القرارات شأن يمني خالص لا يحب الحلفاء التدخل فيها، رغم التنسيق المستمر معهم.
وكان هاجس هادي فيما يخص بحاح، حسبما شعرت به عدة مرات أثناء الحديث وحسبما لمح إليه هو في أجزاء من حديثه ذاك، وجود طبخة جاهزة لم يذكر من يقف وراءها.
طبخة كان بحاح يسعى إلى إتمامها قبل مفاوضات الكويت، يعترف الحوثيون بموجبها بتسلمه السلطة بدلا من الرئيس، ثم يعود إلى صنعاء لتشكيل حكومة وحدة وطنية. وبهذا يقضي الرجل على رمز الشرعية في اليمن.
"ليس بيني وبين بحاح شيء" قال الرئيس "فأنا وافقت على تعيينه نائبا في مرحلة حرجة من عمر اليمن وأيد ذلك الأشقاء".
قلت له: كنت متعبا وكان الجميع يخافون عليك بعد كل ما واجهته في صنعاء وعدن.
هز رأسه وقال إنه لم يكن يتوقع ما بدر من بحاح، وإن الرجل كاد يقسم الشرعية إلى جبهتين، وهو ما اعتبره أمرًا مرفوضا ويعرض قضية اليمين للخطر.
هزيمة ومرارة
شعرت بالمرارة في حديث الرئيس وهو يقول: إنها الهزيمة لنا جميعًا وأنا لن أقبل بذلك.
فهمت تماما ما الذي يعنيه الرئيس بالحديث عن الهزيمة بعد كل تلك التضحيات وآلاف القتلى والجرحى والدمار الذي أصاب اليمن.
أكد هادي أكثر من مرة خلال حديثه ذاك قوله: "إننا لن نسمح بأن يهزمنا الحوثيون وصالح وهذا ما قلته للأشقاء".
كانت مناسبة جيدة وهو يتحدث عن الهزيمة أن أسأله عن تعز، فأكد معاناة الناس هناك من نقص الدعم المالي والسيولة النقدية والنقص في الذخيرة، وأن تلك المعاناة مستمرة حتى لحظة حديثنا. قال إنهم بحاجة إلى تقدم على الأرض وليس فقط ضربات جوية.
الهزائم التي منيت بها اليمن بعد 2011 تقف في حلق الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، وهو يتمنى أن تكون آخر الهزائم وأن ينتصر اليمن الاتحادي، مؤكدًا أنه سيعمل بجد من أجل تحقيق هذه الغاية.
سألت الرئيس: كم عمرك؟
أجاب: 75
قلت له: كم مرة اقتربت من الموت أو تعرضت لمحاولة اغتيال؟
قال: أكثر من مرة.
قلت له كل هذا سيمر، غير أن التاريخ لن يذكر سوى أن عبد ربه عمل من أجل اليمن أو عمل ضده، وقد يكتب أنه جنب اليمن الهزيمة التي تحاول دفعها الآن.
لن تكون هزيمتك الشخصية إن وقعت، ولكنها هزيمة اليمن الذي يحاول الانتصار على نفسه وعلى شرور بعض أبنائه.