إثر الحرب الأهلية اليمنية في صيف 1994، وبعد أن هدأ دويّ المدافع وأزيز الطائرات، راحت الأطراف المتحاربة تحصي حجم الخسائر في الأرواح والسلاح والعمران والبنية التحتية، غير أن ثمة خسارة فادحة للغاية لم ينتبه إليها الجميع في الأيام الأولى، إنها كنوز التراث والآثار النفيسة التي كانت تحفل بها متاحف البلاد ومواقعها الطبيعية ومدافنها الأثرية. آنذاك، وصلتني رسالة من صديق (باحث عربي مقيم في لندن) يُحدّثني فيها بمرارة عن عدد من القطع الأثرية اليمنية وجدها معروضة في دكاكين تختص بهذا النوع من التجارة، وقد اتضح أنه تمّ تهريبها إلى خارج اليمن أثناء وبعد تلك الحرب، وعدا الكم الهائل من الآثار الذي تعرّض للنهب والتهريب، فان كمية - ربما أكبر - تعرّضت للدمار والتخريب.
غير أن المشهد نفسه عاد في اليمن ليُلقي بظلاله السوداء مرة أخرى، بل بصورة أكثر فدح هذه المرة، جراء الحرب الأخيرة التي اندلعت منذ عامين ولا تزال مشتعلة حتى هذه اللحظة.
فالمعلومات المتوافرة تؤكد أن حجم الخسائر في هذا المضمار كبير للغاية، ما بين كنوز منهوبة أو مهربة أو طالتها يد العبث أو الدمار، بما فيها مواقع ومدافن أثرية بأكملها.
وعلمت مؤخراً أن أكثر من مليوني وثيقة ومخطوطة تاريخية يمنية مبعثرة لدى جهات ومؤسسات في الولايات المتحدة وألمانيا وتركيا ودول أخرى، وأن هناك مطالبات رسمية للحصول عليها أو على صور منها، وكانت هيئة الآثار والمتاحف اليمنية استعادت منذ فترة عدداً من الوثائق والمخطوطات الإسلامية نفيسة القيمة من عدة بلدان، بينها خمسة مخطوطات تاريخية بالغة الأهمية ضُبطت مع يمني قام بتهريبها إلى إحدى الدول وبضمنها المخطوط الفقهي الشهير «منهج الطالبين» لقاضي القضاة زكريا الأنصاري ومخطوطات بالغة القِدَم لأجزاء من القرآن ودُرر الفقه الإسلامي.
وبحسب مصدر في وزارة الثقافة فإن عدد المخطوطات الموجودة بحوزة مواطنين تزيد على 250 ألفاً، معظمها من النوع النادر والنفيس، في ظل انعدام الإمكانات التقنية الحديثة اللازمة للحفاظ عليها من التلف، وكذا في ظل انعدام الإمكانات المالية لدى هيئة الآثار لشرائها من المواطنين.
وتتواتر الأخبار والمعلومات بصورة شبه يومية عن حالات نهب وتخريب عديدة تتعرض لها الآثار والمخطوطات التاريخية في عدد من المناطق اليمنية التي طالتها تداعيات الحرب القائمة في البلاد، بالتوازي مع اتساع رقعة نشاط سوق الاتجار بالآثار بغية تهريبها إلى الخارج مقابل مبالغ طائلة، حتى أن صفحات في وسائط الاتصال الاجتماعي ومواقع إلكترونية عديدة ظهرت مؤخراً لهذا الغرض، حيث يقوم أصحابها بالإعلان عن قطع أثرية ومخطوطات وكتب تاريخية معروضة للبيع لمن يرغب ويملك المال الكافي لاقتنائها، أو من يعلن عن حاجته إلى شراء أصناف محددة من القطع والمخطوطات، ما يكشف عن علمه المسبق بأنها باتت متوافرة في أيدي لصوص وتجار الآثار.
حضارة في مرمى النيران
لا تمتلك أية مؤسسة رسمية أو جهة مختصة في اليمن حتى هذه اللحظة أية إحصاءات أو بيانات مقاربة للدقة عن حجم الخسائر في آثار البلاد وموروثها المادي التاريخي، في ظل استمرار الحرب وتداعياتها في المناطق التي تحفل بهذه الكنوز، وينتظر الجميع أن تهدأ مصادر النيران في مناطق الآثار على الأقل.. غير أن مسؤولاً في هيئة الآثار أعرب لي قبل أيام عن قلقه الشديد من أن الحرب لن تتوقف حتى يكون جُل، إنْ لم يكن كل، ما تكتنزه المتاحف والمواقع التاريخية والمدافن الأثرية في طول البلاد وعرضها قد صار في مهب نيران الحرب.
لقد أبادت الحرب الأثر والتاريخ البشري - بمدلول كلمة إبادة - في عدد من المناطق اليمنية، فيما تراوحت حالة الضرر التي طالت الكنوز التاريخية في مناطق أخرى بين فادح للغاية وجسيم.
ومن أكثر المناطق تعرضاً لهذه الحالات مدينة صنعاء القديمة التي تُعد من أقدم مدن العالم الآهلة بالسكان حتى اليوم منذ أكثر من 3000 سنة، وقد وضعتها اليونيسكو منذ 1985 ضمن قائمة التراث الإنساني العالمي.
كما تعرضت للضرر الفادح مواقع تاريخية عدة في مناطق ومدن قديمة جداً مثل: مأرب، الجوف، تعز، صعدة، زبيد، ذمار، أبين وعدن، وشملت هذه الأضرار قلاعاً وحصوناً وسدوداً وصهاريج وجوامع ومعابد ومدافن وأسواراً ومتاحف ودور مخطوطات ووثائق منتشرة في عموم البلاد، ويعود معظمها إلى فترات ضاربة في التاريخ القديم تتراوح بين آلاف ومئات السنين. لقد أصاب الدمار ملامح واحدة من أعرق الحضارات البشرية في التاريخ، فيما وصفت إيرينا بوكوفا الأمين العام لليونسكو ما يحدث لآثار اليمن وكنوزه التاريخية بأنه «تدمير لواحدة من أعرق جواهر الحضارة الإنسانية والإسلامية».
*عن الخليج الإماراتية