قلنا قبل حين، إن قراءة المشهد اليمني الماثل من خلال الثنائية الفارقة بين الشرعية والتمرد ينطوي على قدر كبير من الاستيهام المقرون بالنوايا الحسنة، فهذه الثنائية على قدر موضوعيتها وحقيقيتها لا تلغي بحال من الأحوال وجود اختلافات بينية داخلية، سواء كانت تلك الاختلافات اجتهادية مشروعة، كحال كل اجتهاد في المعطى السياسي، أو كانت تصادمية مكبوتة ومؤجلة، كما شهدنا غير مرة في التاريخ السياسي اليمني المعاصر، ذلك التاريخ البائس الذي ما زال يعيد إنتاج خرائبه بقوة دفع تتناسب مع الرموز الكئيبة ذاتها التي كانت، وما زالت تنبري برؤوس حرابها الناتئة في المعطى السياسي اليمني المعاصر.
ومهما يكن من أمر التوصيف السابق، فإن أبرز حكمة نستقيها من هذا التوصيف يكمن في ضرورة قراءة المشهد خارج الثنائية المغلقة المستغلقة.
بل ضرورة الخروج من العلب الكرتونية للتوصيف السائد، فالحقيقة تكمن في ذلك البُعد الثالث الذي قد لا يراه الكثيرون، خاصة المخطوفون بإيقاع اللحظة وجنونها، والشاهد على ما نذهب إليه أن الرئيس السابق علي عبدالله صالح لا يحوز تأييد كامل المؤتمر الشعبي، بل إن قطاعاً واسعاً من المؤتمريين الرائين يقفون ضد مشروعه الوراثي«الجملكي» على طول الخط، وقد برزت هذه الحقيقة منذ سنوات الحروب الست على صعدة، عندما تيقَّن المنخرطون في لوثة الحرب أن الهدف منها لم يكن قمع التمرد هناك، بل تصفية الجيش الكلاسيكي ليحل جيش الحرس الجمهوري محله، وينفسح الطريق للوراثة الجمهورية التي ما أنزل الله بها من سلطان. وقد اتخذت تلك الحالة الرفضة للتوريث واستمرار النظام بعدها الدراماتيكي في عام 2011م، واستمرت بمتوالية صاعدة.
وبالمقابل لا نستطيع أن نتحدث عن التحالف القاصر بين الحوثيين وأنصار صالح إلا باعتباره تحالفاً ملغوماً بالتكتيك والمكايدات السياسية، مع منسوب فاضح من الاستيهامات المناطقية الضيقة، والدليل على ذلك الاتهامات المتبادلة بين طرفي التحالف الميكيافللي، وكيف بدأ الحوثيون المخطوفون بالإيديولوجيا التاريخية الدينية الناضبة، يستشعرون أنهم إنما كانوا بمثابة «حصان طروادة» لمآرب صالح وأحلامه المستحيلة في العودة إلى سدة الحكم.
التظاهرتان الأخيرتان بين أنصار الحوثي وأنصار صالح كشفت الغطاء، ووضعت النقاط على الحروف في ما يتعلق بمآرب صالح، فالمؤيدون له لم يترددوا في رفع صوره وصور ابنه، في إشارة ذات مغزى إلى المشروع البائس ذاته الذي خبا وتلاشى بالترافق مع الانتفاضة الشعبية الكاسحة في عام 2011م.
وإذا ما انتقلنا إلى الشرعية اليمنية المعتدَّة أصلاً وأساساً بدستور الدولة الراهن، ومورث النظام والقانون المؤسسي، سنكتشف من دون أدنى ريب أن هنالك من يتجاوزون مرئيات الدستور والقانون، وهؤلاء يتحركون تحت مظلة ما يسمونه بالضرورات السياسية، من دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن مواءمة منطقية بين السياسي والقانوني، وبهذا المعنى يعيدون أسوأ تجليات الماضي، كأنهم يدركون ما يفعلون، وتلك مصيبة.. أو لا يدركون ما يفعلون، وتلك مصيبة أعظم وأكبر.
هنا تنبجس الرؤى المتباينة والاجتهادات المختلفة، فتصبح المؤسسة الرئاسية اليمنية، الممثلة حصراً وأساساً في إرادة الرئيس الحالي عبدربه منصور هادي. تصبح هذه المؤسسة تحت طائلة المساءلة الأدبية والأخلاقية من قبل المنتظمين في أساس الشرعية وتضاعيف حضورها في المعطى الوطني العام لليمن الكبير.
من الطبيعي أن تتباين الاجتهادات، وأن تختلف المقاربات.. لكن جهداً استثنائياً باتجاه التناغم بين القانون والضرورة أمر لا مفر منه في هذا الظرف الخاص، ذلك أن المتمردين الانقلابيين يستفيدون إلى حد كبير من الأخطاء الاجتهادية، والتمريرات الكيفية، والتداعيات الاستنسابية التي تقع فيها الشرعية على حين غفلة من إرادة الإكراهات والاستحقاقات الماثلة باهظة الثمن، ومن هنا تنشأ المعادلات الأُفقية.. تمترساً وتشظياً، بل وخدمة للانقلاب والانقلابيين.
من الضرورة بمكان أن تباشر الشرعية اليمنية تصحيحاً اجرائياً صارماً لكل ما يشوب العملية السياسية من أعطاب بادية للعيان، خاصة ما يتعلق منها بالشرعنة الحاسمة للشرعية، عن طريق التواجد الحصري والتام في الداخل اليمني، والتلاحم العضوي مع قضايا الناس وهمومهم، والتخلِّي الطوعي الفوري عن إقامة المنفى التي لا مبرر لبقائها، والمباشرة الواعية.. القابضة على جمرة الحقيقة، والمناجزة لجملة الاستحقاقات الماثلة.
على الشرعية اليمنية أن تقوم أيضاً بتصحيح الأخطاء القانونية إن وجدت، وأن تكون المثال الناصع لمغادرة رزايا الماضي القريب، واعتبار العمل المؤسسي الناظم والضابط لفعل المجتمعي الشامل، ومقارعة الفسدة والفاسدين أينما تواجدوا، وكيفما تغلفوا.
لم تعد المعركة المحتدمة في اليمن معركة دبابات ودروع وطائرات فحسب، بل معركة شاملة يتحمَّل فيها ممثلو الشرعية اليمنية مسؤولية تاريخية جسيمة لا مفر من متابعة استحقاقتها، أو التخلي الشجاع عن المسؤولية إن لم يكونوا قادرين على إدارة المرحلة.
لقد ثبت وبالدليل القاطع المانع أن الماضي السلبي لا ينحسر بين عشية وضحاها، وأن فعل التغيير في التاريخ كان، وسيظل محكوماً بقوانين التاريخ الموضوعية، وأزْمنته الخاصة المفارقة لأمانينا وأحلامنا، وأن الصبر على المكاره عتبة كبرى نحو انطلاقة متجددة لا بديل عنها.
استمرار العملية السياسية اليمنية من حيث انتهت، وبمرجعياتها التوافقية الواضحة هو الضمان الأكيد لشرعنة الشرعية بعد أن تتم إزالة الأوساخ والنتوءات التي برزت خلال مرحلة الضرورة السياسية الاستثنائية.