عصام القيسي

عصام القيسي

المفكر عصام القيسي

كل الكتابات
خواطر في الفن
الأحد, 29 مارس, 2020 - 10:04 مساءً

في العام 2007 على الأرجح تلقيت رسالة عبر الياهو من الفنانة اليمنية الصاعدة حينها بلقيس أحمد فتحي. كانت تطلب فيها بتواضع وذكاء نصيحة تنفعها في مشوارها الفني الجديد. أتذكر أني رددت عليها بالقول: ليس لدي ما أقوله لك أكثر مما سيقوله والدك. لكن هناك مثل أمريكي يقول: الأسد عبارة عن مجموعة خراف مهضومة. وقياسا عليه يمكننا القول إن الكاتب أو الفنان عبارة عن مجموعة كتاب وفنانين مهضومين. وهذا يعني أن المهم هو اختيار من نقرأ لهم ومن نستمع إليهم بعناية. فمستوى المدخلات هو الذي يحدد مستوى المخرجات.
 
وهي النصيحة التي أرددها طوال الوقت أمام أصدقائي من الفنانين الشباب، سواء أكانوا ممثلين أو مغنين. والجملة التي لا أمل تكرارها أمامهم هي أن الفنان ذكاء وشخصية قبل أن يكون حنجرة ذهبية. وعادة ما أضرب لهم مثلا بعبد الحليم حافظ. فهذا الرجل نموذج للفنان الذي صنعه ذكاؤه لا جمال صوته، على الرغم من عبقرية صوته بالطبع.
 
قبل أن يخطو عبد الحليم حافظ إلى الفن كان شقيقه إسماعيل صاحب الصوت القوي قد سجل بعض أغانيه في الإذاعة المصرية. ومن النقاد من يعتقد أن صوت إسماعيل شبانة أقوى من صوت شقيقه عبد الحليم. لكن من يعرف اليوم إسماعيل شبانة؟!. وظهرت مع عبد الحليم وبعده أصوات شابة ممتازة، ممن توفرت لهم فرصة اللقاء بعباقرة التلحين المصري الحديث، كهاني شاكر وعماد عبد الحليم. لكن أين مقام هؤلاء من مقام عبد الحليم؟!.
 
عندما سمعت صوت هاني شاكر لأول مرة في أغنية "كدا برضو يا قمر" ظننته عبد الحليم حافظ، لولا غياب تلك اللمعة البسيطة والساحرة التي أعرفها في صوت عبد الحليم. كان لحن الأغنية قويا كما هي عادة محمد الوجي، وكانت الفرقة التي تعزف وراءه هي الفرقة الماسية التي تعزف وراء عبد الحليم. وكان كل شيء يبدو وكأن عبد الحليم الثاني قد ظهر. إلا أن الزمن كان له رأي آخر. هو نفس الرأي الذي تنبأ به عبد الحليم عندما سئل عن هاني شاكر، فقال: ليس لديه طموح. وكأنه كان يعني ليس لديه ذكاء ولا شخصية. وهذا صحيح، بدليل أن الرجل لم يستطع الوصول إلى ربع ما حققه عبد الحليم من نجاح برغم توفر كل العناصر اللازمة له.
 
كان ذكاء عبد الحليم يتجلى في أكثر من مظهر. في مقدمة ذلك اختياره منذ البدء لطريق جديد في الغناء لم يكن مألوفا قبله. وأصراره على المضي في هذا الطريق حتى لو تأخر قليلا وعانى بعض الصعوبات. لقد اختار أن يفتتح مدرسة الغناء الخفيف اللطيف. بعيدا عن تشنجات مدرسة "أمان يا للي أمان" ومووايل "ياليل يا ليل" التي كانت سائدة آنذاك. وذهب يغني "صافيني مرة" و"توبة" وما شابه ذلك من الغناء الشبابي البسيط. وهو الخط الذي مضى فيه بقية الفنانين الشباب بعد ذلك.
 
ومن تجليات ذكائه اختياره لكلمات أغانيه، وتهذيب ما يحتاج منها إلى تهذيب، كما فعل مع قصيدة قارئة الفنجان لنزار قباني. حيث كان يتواصل مع الشاعر تلفونيا لمدة ساعتين في اليوم على مدى أسبوع كامل من أجل تعديل نصها. أي أنه كان يمتلك ذائقة أدبية تمكنه من اختيار القصيدة ونقدها. وبالفعل من يتأمل النص المعدل للقصيدة يجده أكثر كثافة في المعنى وأقل حشوا.
 
أما ذكاؤه في اختيار اللحن المناسب فيكفي أن نعرف فيه قصة قارئة الفنجان نفسها. حيث كلف صديقه الموجي بتلحينها، واستأجر له جناحا خاصا في فندق سمير أميس لمدة مفتوحة حتى يتفرغ للحنها. وعندما جاءه الموجي بعد ستة أشهر باللحن، سمعه عبد الحليم وقال ببرود: تستطيع أن تصنع لحنا أجمل من هذا!. وعاد الموجي إلى الفندق ستة أشهر أخرى، وجاء بلحن جديد، لكن عبد الحليم اختار اللحن الأول!. لقد كان يعتصر الملحن حتى يخرج أجمل ما لديه.
 
أما آخر مظاهر ذكاء عبد الحليم فتبدو في قدرته الفذة على تحويل نفسه إلى أيقونة للرومانسية العربية. سواء بأدائه المتفرد وكارزميته على المسرح، أو بأناقته المتفردة التي لا يضاهيه فيها فنان عربي حتى الآن.
 
والشاهد في كل هذه الحكاية هو أن الذكاء والثقافة الشخصية هي التي تصنع الفنان الحقيقي وليس الصوت الجميل والخبرة التسويقية.

* نقلا عن صفحة الكاتب في الفيسبوك

التعليقات