دمعة على قبر المقالح
الإثنين, 05 ديسمبر, 2022 - 03:53 مساءً

حتى هذه اللحظة ، لا أقوى على الالمام بنواصي القلم و لملمة حواشي الكلِم . فقد صدمني النبأ ، بالرغم من معرفتي الأكيدة بتدهور صحته الجسدية على نحوٍ يومي فادح ، منذ عدة شهور . وبالرغم من توقُّعي سماع هذا النبأ بين حينٍ وآخر ، منذ فترة ليست بالقصيرة !
 
الاَّ أن وقع هذا النبأ الأليم على الأسماع والوجدان كان صادماً بحق . فهذا ما يحدث لأيّ امرىءٍ تجاه كل عزيز . وهل من عزيز كعبدالعزيز !
 
...
هل أنهار بابك الثامن يا صنعاء ؟
هل أسلمَ حارسك الأمين الروح ؟
... وسلَّم عاشقك الأبدي الراية ؟
 
كتب عبدالعزيز المقالح قصيدته الأخيرة في كتاب صنعاء ، وسِفْر الوطن ، ودفتر الحياة .. وقرَّر أن يُغادر مقعده في المكان الذي لم يعد مناسباً لتواجده ، وفي الزمان الذي لم يعد جديراً بوجوده .
 
هكذا ، بعد رحلة طويلة مُضنية ، حطَّ القلم على صدر الورقة ، بعد أن خطَّ الكلمة الأخيرة على وجهها : وداعاً .
...
كان ظهره قد تقوَّس وانحنى ، بعد أن ناءى بكلكلِ من اثقال ما عانى هو والبلاد ..         
 
كان ظهره ، فقط . أما قلبه فلا . وأما قلمه فلا . وأما ضميره الوطني والانساني فلا ، ولا الذاكرة .
 
هل كان ظهرك يا عزيز ، أم عضد الوطن هو الذي توجَّع وتهاوى وانكسر ؟
 
أم أنك قرّرت فجأة أن تُواري كل هذا الوجع الذي كان بحجم البلاد .. وأن تدفنه معك في رحم المدينة التي عشقت حدَّ التمزق والألم ؟
 
وها قد ضمَّك رحم صنعاء في رحلتك الأبدية الى الأبدية . فأهنأ برحلتك الأخيرة مع المعشوقة التي لم تَرْقَ اليها معشوقة في فؤادك يوماً .
 
...
كنت مُتّقد الذهن والذاكرة حتى أيامك الأخيرة ، ومشتعل الروح والشعر ، وهانىء البال بسلامك الداخلي ..
 
وكنت تحتفي بأصحابك في دارك - بعد أن غبتَ عن مكتبك تحت وطأة التعب - وأنت بشوش المُحيَّا ، جذِلاً بهم .
 
وبرغم أن الأصحاب قد تناقص عديدهم ، وخَفَت نشيدهم ، الاَّ أنك لم تُدِر وجهك يوماً عن أحدٍ منهم في عاديّ يومهم أو عيدهم .
 
ألم تقُل لي يوماً :
 
" الأصدقاء
لم يعودوا مثلما كانوا
نجوماً تهتدي بها النجوم ،
والأعداء
لم يعد لديهم من فضائل الصبر
ولا أناقة اختيار الكلمات الجارحة " .
وقد كنت تراهم في دقيق البصر وعميق البصيرة :
" هذي الكتلة الكبرى من الزحام
لم يعودوا يُبصرون بعضهم
ولا طريقهم
لا خلفَ في قاموسهم
ولا أمام " .
 
...
رحمة الله تغشاك يا صديقي ورفيقي ومُعلّمي .. ورحمة الوطن .
 
بَيْدَ أنني أبكيك اليوم ، ليس للأمر الذي قضاه الله وقدَّره ، وهو أمر محتوم ..
 
انما أبكيك لأنك رحلت في اللحظة الكريهة في حياتك وحياة صنعاء وحياة الوطن والناس الذين أحببت ..
 
اللحظة التي لم تكن قط جديرةً برحيلك ، الرحيل الذي كان ينبغي له أن يكون شبيهاً برحيل النوارس والمآذن والمرافىء والأشرعة .
 
هل كان الرحيل الخطأ في اللحظة الخطأ ؟
 
نعم ، كان كذلك تماماً .
 
فقد كان ينبغي لك أن ترحل - اذْ ترحل - في حالةٍ صنعائية مُوشَّاة بالابتهاج .. في سُمُوٍّ يمانيٍّ مُكتظ بالعنفوان .. في موجة فرح ، لا تكسرها صخرة ناتئة في شطّ البلاد ..
 
ولا يُصادرها قرصان أعور تمطَّى على صارية الفجيعة الغاشمة .
 
وداعاً ... يا سيّدي وحبيبي .
 
*نقلا عن موقع بلقيس
 

التعليقات