كانت للشيخ محمد علي عثمان - عضو المجلس الجمهوري - اهتمامات بالغة بالفن والأدب، وتذوق الشعر، وكتابته، وقد خَلَّد - كما أفاد ولده المهندس أحمد - مكان مولده (قرية الحوية) في مَطلع قصيدة (يا بنات في الحوية) التي غناها الفنان الكبير أيوب طارش عبسي في بداية سبعينيات القرن الفائت، وهي القصيدة التي قام صديقه الشيخ يحيى منصور بن نصر بإكمالها، مع تغيير كلمة عجز البيت الثاني من (يومين) إلى (شهرين).
قال الشيخ عثمان:
يا بنـــات في الحــــوية
خَبــــِــرنـِي وقـــُـــوليـن
لـــــي قُـــداكــن بُنــــية
شُفتـــها قبــــل يوميــن
وقرية الحوية هذه تقع في قضاء الحجرية، وفيها أبصر الشيخ محمد علي عثمان النور لأول مرة 2 أبريل 1907م، وذلك أثناء عمل والده مُديرًا لمالية ذلك القضاء، مُعينًا من قبل الأتراك أثناء تواجدهم الثاني في اليمن.
كما أنَّه ولشدة تَذوق الشيخ محمد علي عثمان للشعر، كان شاعر اليمن الكبير عبدالله عبدالوهاب نعمان (الفضول) دائمًا ما يُسمعه أشعاره الجديدة، ويطلب حولها رأيه، وحين قرأ له هذا المقطع من غِنائية (طاب البلس):
كم يا قلوب زاورت روحي
وماشي قلب غيره وسط روحي جلس
خاطبه قائلًا: «مايسبرش هكذا، الأرواح هي اللي تتزاور، وليس الأشباح يا عبدالله»، وبسرعة بديهية غير الشاعر الفضول ذلك البيت إلى:
كم يا نجوم زاورت روحي
وماشي نجم غيره وسط روحي جلس
كان الشيخ عثمان يُعز الشاعر الفضول كثيرًا، وقد أهداه الأرضية التي بنى عليها منزله في حارة المسبح (الضربة)، واشترط عليه أنْ يكون ذلك المنزل لحبيبته ومُلهمته عزيزة النعمان، تقديرًا منه للحب الخالد الذي جمع قلبيهما، وهو المنزل الذي خلَّد شاعرنا الكبير ذكره في قصيدة (أنا مع الحب)، حيث قال:
ما احلى حبيبي وسط داري يحوم
كـــأنَّ عنـــدي كــل ضــوء النجوم
والنــهر والــزهر وقطــــــر النــدى
ورونـق الشمــــس وظـل الغيــوم
وبما أنَّ الشيء بالشيء يُذكر، فقدت شهدت مدينة تعز خلال تلك الفترة (بداية سبعينيات القرن الفائت) حراكًا فكريًا وثقافيًا مائزًا، وكانت مجالس بعض أعيان المدينة الحالمة، ومن ضمنها مجلس الشيخ عثمان أشبه بالصالونات الأدبية، إلا أنَّها لم تحظ بالاهتمام الجيد، والتوثيق اللازم، ولم يصلنا من مآثرها إلا النزر اليسير.
كان الشاعر الفضول نجم تلك المجالس، وكان دائمًا ما يفاجئ أصدقائه بأحدث إبداعاته الغنائية بصوت رفيق دربه الفنان أيوب طارش، وهي طور التلحين، ولم تكتمل جمالياتها الفنية بعد، وكان الهديل أيوب - حسب حديث صحفي - يتحسس من ذلك الموقف المُتسرع، دون أنْ يُبدي اعتراضه، احترامًا لمكانة أستاذه الفضول الذي وجد في صوته الشجي النقي ضالته.
ذات مقيل صيفي ماتع، وحسب حديث لأحد المُهتمين (التقيته قبل سنوات، ونسيت اسمه)، أسمع الشاعر الفضول الحاضرين أحدث أغانيه العاطفية: (طاب اللقاء وحبيب القلب وافي العهود)، فما كان من الشيخ محمد علي عثمان والشيخ يحيى منصور بن نصر وآخرون إلا أنْ استثاروا غيرة شاعرنا العظيم، وخاطبوه بما معناه: «بإمكان أيوب أنْ يُغني من غير كلماتك، وينجح ويشتهر، والشعراء أمثالك كُثر، فلا تحتكره لنفسك، وما دام اللحن جاهز أتركه لغيرك...».
وحسب حديث للفنان أيوب طارش، أنَّه - أي فناننا الكبير - أسمع عددًا من أعيان ومُثقفي مدينة تعز تلك الأغنية في منزل العميد عبدالكريم عبدالإله (ربما يكون هذا المقيل الأول والوحيد الذي تمت فيه مناقشة لحن تلك الأغنية، وربما يكون الثاني)، وما أنْ انتهوا من التصفيق له، والإعجاب بها، حتى انبرى الشيخ عثمان مُعاتبًا ومُداعبًا الشاعر الفضول بقوله: «لكن لاتكونش تنخط على أيوب يا عبدالله؛ كما كلماتك وقصائدك ما تطلعش ولا تحلى إلا بلحنه وصوته، وإلا ابصر إنَّ الناس ششتروها لو سجلتها بصوتك»!
كان الشيخ عثمان - حسب حديث الفنان أيوب - من أكثر المُشجعين والمحبين له، التفت إليه بعد الانتهاء من حديثه للشاعر الفضول، وخَاطبه قَائلًا: «يا أيوب خلي من يعمل قصيدة على لحنك هذا بدلًا من طاب اللقاء، وشنلتقي بعد أسبوعين هنا وشنسمعك».
ولأنَّه كان شديد الوثوق والاعتزاز بنفسه، رضخ الشاعر الفضول مُكرها لذلك التحدي، في حين تَواصل الفنان أيوب مع الشاعر أحمد الجابري، الذي كان حينها مُقيمًا في مدينة تعز، ويعمل مُديرًا تجاريًا للشركة اليمنية للصناعة والتجارة، التابعة لرجل الأعمال هائل سعيد أنعم.
لبى الشاعر أحمد الجابري الطلب من أول وهلة، وساعدته أجواء الحالمة الماطرة، وقات الجدة الصبري في استحضار أفكاره وأشواقه، وعلى وقع اللحن الأيوبي الحزين كتب رائعته الغنائية: (أشكي لمن ونجيم الصبح قلبي الولوع)، وما هي إلا أيام معدودة حتى صدح بها الهديل أيوب في حضرة الشيخ عثمان وآخرين، وكان الأخير - حسب حديث الفنان أيوب - من فرحته يقوم ويقعد، ويقول مُخاطبًا الشاعر الفضول: «هيا ابصرت يا عبدالله، والله لا نخلي الشعراء كلهم يعملوا لأيوب قصائد لألحانه كلها، ولا تجلس تنخط علوه».
وأضاف الفنان أيوب طارش متحدثًا عن الشيخ عثمان: «الله يرحمه، كان يعزنا كثير، ومن محبته لي وتشجيعه أوعز إلى من يشتري لي عود حلبي من سوريا، وحينما بدأت ببناء البيت، وأشرفت على الانتهاء منه، وكنت بعيد عن الماء والكهرباء، قال: ولا يهمك أنا شخلي من يوصل لك الماء للبيت، والكهرباء على عبدالعزيز الحروي».
وهكذا صارت (أشكي لمن)، تلك الشكوى الحزينة على كل لسان، وكانت تلك الأغنية باكورة أعمال الشاعر الجابري التي غناها فنان اليمن الكبير، تبعتها سبعة أعمال جميلة (خذني معك، وإيش معك، وهوى الأيام، وقسمة ونصيب، وعاشق الليل، ولأجل اليمن، وشهر الصيام)، نالت هي الأخرى حظها من الشهرة والانتشار.
بعد أكثر من 17 عامًا من ذلك اللقاء، وضع الفنان أيوب طارش لحنًا رائعًا لغنائية (طاب اللقاء - وافي العهود)، يتفق وسياقها الدرامي المُذهل، وسجلها - أي الأغنية - في القاهرة بتوزيع موسيقي بديع، وكُتب لها النجاح كما كُتب من قبل لمنافستها (أشكي لمن)، وكانتا بحق أغنيتين أيوبيتين خالدتين، قصة ومعنى.