السلطات اليمنية ومعترك الأعياد الوطنية والدينية
الجمعة, 06 أكتوبر, 2023 - 09:47 صباحاً

تأخُذ الاحتفالات الشعبية بالأعياد الوطنية، في التقاليد المنظمة للمجتمعات، طابعاً عفوياً ينطلق من المجتمع، وتتماهى معه السلطة، كونه مشتركاً وطنياً، ففي حين تتسم الأعياد الدينية بخصوصيتها الهوياتية التي تميّز الجماعات، فإن الأعياد الوطنية تأخذ أهميتها من إطارها الجامع الذي يوحّد المواطنين، ويعكس مصلحتهم الجمعية، من مضامينها الاستقلالية والسيادية إلى مبادئها الدستورية التي تؤكّد على المواطنة وحماية الحريات العقائدية والشخصية، وإذا كانت الهزّات الاجتماعية والسياسية في بلدان الحروب قد قوّضت، إلى حد كبير، من المشتركات الوطنية العابرة للهويات الدينية والسياسية والمناطقية، التي انعكست، بشكل كبير، على رمزية الأعياد الوطنية، فإن الاحتفالات الحالية التي شهدها اليمن، سواء الوطنية أو الدينية، جرّدتها سلطات الحرب من مضامينها، إلى جانب تسييسها واستثمارها.
 
تنتخب الذاكرة الجمعية أعيادها الوطنية التي تعكس مصلحتها العليا بوصفها مجتمعات موحّدة. وفي اليمن، مثلت ثورة 26 سبتمبر/ أيلول ضد الحكم الإمامي في شمال اليمن، وكذلك تحرير جنوب اليمن من الاستعمار البريطاني، إطارا نضاليا جامعا لليمنيين بمبادئها الاستقلالية والسيادية، وقيمها المواطنية، فيما شكّل قيام الدولة اليمنية الموحّدة عام 1990 بدستورها، امتدادا لنضالات اليمنيين، ومن ثم كان الاحتفال بهذه المناسبات تقليدا شعبيا، تتماهى معه السلطات السياسية، بيد أن الحرب الحالية، ولكونها مسارا تقويضيا للمنجزات الوطنية، بشقّيها المادي والمعنوي، انعكست على دلالات هذه المناسبات، وأيضا على طابعها، فمن جهة، شكلت عودة قُوى الماضي إلى المشهد السياسي التي تعدّ في مضامينها وبنيتها انقلابا على مبادئ الثورات اليمنية، بما في ذلك سلطات الحرب الموالية للخارج، حالة ارتدادٍ تاريخيٍّ على مستوى التطلعات الشعبية، كما أن مسارات الحرب منحت هذه القوى أدوات قوّة لتقويض مبادئ الثورات اليمنية بمنطلقاتها الفكرية وثوابتها الوطنية، مقابل فرض مشاريعها التفتيتية على اليمنيين، من تجريف كيان الدولة الموحّدة ورموزها السيادية ودستورها وأعيادها الوطنية، مقابل تأسيس سلطة الوكلاء في المناطق المحرّرة، بمشاريعها التمزيقية، إلى تكريس مشروع عصبوي طائفي، ومن ثم ماضوي، ممثلا بجماعة الحوثي في المناطق الخاضعة لها. رسميا، اتخذ طابع الاحتفالات بالأعياد الوطنية المظاهر الموسمية كالعادة، من هدر الأموال إلى الاستعراض العسكري والخطابي، مقابل التسييس والتوظيف، فيما أخذت مضامين الاحتفالات على الصعيد الشعبي بعدا وطنيا، جامعا، بمقاومة مشاريع الماضي بقواه الظلامية والتمزيقية.
 
في حالات كثيرة، لا يكون رفع علم الدولة الوطنية في مؤسّسات الدولة الرسمية والاحتفال بأعيادها تعبيراً عن استقلال السلطة الحاكمة، وسيادتها على الأراضي الخاضعة لها، وأيضا تأكيدا على هويتها الوطنية، ومن ثم تمثيلها المبادئ الدستورية للدولة الوطنية، إذ يقتضي ذلك أن تكون هذه السلطات قد أتت خيارا شعبيا، ومن ثم تتشارك معه المنطلقات الوطنية وتعبّر عن مصلحته، بيد أن سلطات الحرب في اليمن، على اختلافها، التي فرضتها الحرب، ومن ثم عوامل القوة والإكراه، تمثل نقيضا تاريخيا لكل المبادئ التي ناضل من أجلها اليمنيون على امتداد تاريخهم المعاصر. وإذا كانت ثورات اليمنيين على النظام الإمامي والاستعمار البريطاني، وتأسيسهم الدولة الموحّدة، يعني ثورة على ما تعنيه هذه الأنظمة البائدة من استلاب وظلامية، وارتهان للخارج، وتفريط باليمن التاريخية، وبحقوق اليمنيين، فإن سلطات الحرب الحالية هي التشوّه الجيني لمسوخ الماضي، وامتداد لنقائص ما ثار اليمنيون عليه.
 
ولأنه تستحضر في الأعياد الوطنية مسوخ الحاضر اليماني، فإن الذكرى الـ61 لثورة 26 سبتمبر ضد النظام الإمامي تمثل مناسبة مثالية للتندّر، وأيضا للقياس، حيث تكمن المفارقات، ففي حين، تقدّم سلطة المجلس الرئاسي نفسها ممثلا لرمزية الدولة اليمنية الموحّدة، التي من المفترض أن تشكل قطيعة مع الماضي، ومن ثم تتبنّى مبادئ الثورات، فإنها، وإن تبنّت احتفالات ذكرى الثورة السبتمبرية، إلا أن طبيعة تشكّلها وولاءاتها، باعتبارها سلطة وكلاء، أي قوة متعدّدة موالية للخارج، من السعودية إلى الإمارات، تمثل تعارضا جوهريا مع مبادئ الثورة السبتمبرية التي نادت باستقلال اليمن وسيادته، ومن ثم جرمت الأوصياء، كما أن الطابع التشطيري لسلطة منقسمة، سياسيا ومناطقيا، حضر في طابع هذه الاحتفالات ونطاقاتها ودلالاتها أيضا، وإن كان على صعيد السلطة في المقام الأول، إذ انحصرت احتفالات الثورة إلى حدّ كبير في المناطق الشمالية، بحيث تركّزت في مدينتي تعز ومأرب، وغابت في معظم المناطق الجنوبية، بما في ذلك مدينة عدن، العاصمة المؤقتة لسلطة المجلس الرئاسي، وإن حضرت في نطاقاتٍ معزولةٍ جنوبا، تمثل تجمّعا سياسيا لا أكثر، ومن ثم لم تستطع سلطة المجلس الرئاسي أن توفّر قدرا من الوحدة في إدارة الاحتفالات على المستوى السياسي في المناطق الخاضعة لها، وإن رمزيا، إلى جانب أن سلطة المجلس، وإن سيّست احتفالها بثورة 26 سبتمبر، ووجّهته ضد جماعة الحوثي، أحفاد الأئمة، فإن المفارقة الأخرى التي تعيها بالطبع أن حلفاءها الإقليميين هم الذين كرّسوا سلطة خصمها.
 
في حالة جماعة الحوثي، تتخطى القطيعة مع الدولة اليمنية بامتداداتها التاريخية، ومع ثورة 26 سبتمبر تحديدا، التناقض الجوهري مع مبادئ الثورة، إلى الرفض الذي يتّخذ طابعا أكثر جذرية، من رفض مشروع الدولة اليمنية، ورموزها السيادية، إذ لا يتماهى التاريخي في حالة الجماعة باعتباره ظلّ يقيّدها، بل ماض تستردّه وتفرضه بكل الوسائل، إذ إنها، كجماعة دينية طائفية، تمثّل امتدادا للنظام الإمامي الذي حكم شمال اليمن في القرن الماضي، والذي أطاحته ثورة 26 سبتمبر، سواء على مستوى مرجعياتها الدينية والفكرية التي تدير وفقها المجتمع أو على مستوى بنيتها التي تتعارض مع السياق المدني لأي سلطة، فضلا عن ممارساتها سلطة أمرٍ واقع، ففي حين تفرض جماعة الحوثي سرديّتها الدينية على المجتمع، باعتبارها جماعة أصلانية تنتسب إلى النبي محمد، فإنها واصلت تقويض الدولة الوطنية، من بناها المادية إلى رموزها السيادية. وإذا كانت رمزية الدولة المدنية تحضر بديهيةً في رموز السلطة وشعاراتها، بحيث تحدّد اتجاهاتها، فإن إزاحة الجماعة الأعلام الوطنية من المجال العام يتأسّس على بعد إلغائي، مقابل بروز اللون الأخضر رمزا لهوية الجماعة وسلطتها الدينية، ومن ثم السياسية، تستقيه من التقاليد الشيعية التي تروي أن لون علم لواء الحمد الذي سيحمله علي بن أبي طالب يوم القيامة أخضر. لذلك يهيمن اللون الأخضر في المناطق الخاضعة للجماعة على المجال العام، ويحتكر دوائر العلانية، ويجيرها لصالح سلطةٍ أحادية، وتمييزية مهيمنة. يضاف إلى ذلك نهج الجماعة في تجريم الاحتفال بأعياد ثورة 26 سبتمبر في مناطقها، ومن ثم عدم تبنّيها رسميا احتفالات الثورة، إذ إن الجماعة، وإن أعلنت يوم 26 سبتمبر عطلة رسمية، في محاولة للتحايل على مأزقها السياسي وحكمها مجتمعاتٍ متنوّعة، تشكل مبادئ ثورة 26 سبتمبر مشتركا وطنيا جامعا، فإن عدائيتها تتجاوز تجاهل قياداتها السياسية للمناسبة، بما في ذلك زعيم الجماعة عبد الملك الحوثي، الذي ألقى خطبة في يوم عيد الثورة، أي قبل يوم من عيد المولد، ولم يتطرّق إلى المناسبة، الإلغاء، والإزاحة ثم التقويض لذكرى ثورة 26 سبتمبر، أخرج الجماعة من عقالها، في سورة غضب، تمثلت بحوادث متفرّقة بالتهجم على الشباب المحتفلين في صنعاء بالثورة.
 
إضافة إلى هذا الإلغاء، فرضت الجماعة عيد المولد النبوي مناسبة عامة، تطغى ومن ثم تزيح أي أعياد وطنية، حيث تتعدّد أهدافها، فإلى جانب ربط نفسها بالنبي محمد، أي بالمناسبة وما يعنيه ذلك من تقوية مركزها السياسي، ومن ثم الديني، كطائفة تهيمن على المذهب الزيدي وعلى نطاقاتها الجغرافية، وتزيح ما عداها، فإنها تمثّل مناسبة لاستعراض قوتها بوصفها سلطة، إذ يتمظهر ذلك بالتحشيد الرسمي والشعبي، من توظيف موارد الدولة لهذه المناسبة، واستقدام المواطنين من خارج صنعاء ومن الأرياف والمدن الخاضعة لها إلى احتفالية السبعين، ومن ثم عرض قوتها العسكرية والسياسية، على خصومها وقبل حلفائها الذين تتربّص بهم، وفي تمظهرات القوة، يطغى اللون الأخضر بكل رموزه وتنويعاته، حيث يتشابك العام، المؤسّسي والتجاري والديني مع الخاص، من العمارات إلى المنازل والأنشطة التجارية، فيما يتشبك معطى لوني ورمزي آخر في هذه الاحتفالات، وإن احتلّ الدلالات نفسها، حيث يتّحد علم سلطة الأمر الواقع وعلم الجماعة والمذهب الذي صادرته، بحيث لا تستطيع فصل هذه الدلالات بعضها عن بعض، كما لا تستطيع فصل احتفالاتها بالمولد النبوي عن الاحتفالات السياسية ممثلة بذكرى سيطرتها على صنعاء، وإن كانت مناسبة المولد تحظى بأهمية مركزية بالنسبة لها، حيث تستطيع التحايل على السياسي بتوظيف الديني، أي جرّ الناس إلى الاحتفال، بيد أن هذا الاحتفال، بما في ذلك تسيّد اللون الأخضر، لا يعني ثقلها بصفتها سلطة اجتماعيا وجماهيريا، بل هو انعكاس لوسائل القوة والاستحواذ والتوجيه التي استخدمتها الجماعة بإدارة كرنفالها. وكذلك استغلال مناسبة المولد سياسيا ودينيا، واقتصاديا، بما في ذلك إجبار المواطنين على إبراز مظاهر الاحتفال بالعيد النبوي، الذي أصبح محاولة لدرء المنتفعين ووسيلة للحماية من عسف السلطة أكثر من كونه تعبيرا عن الولاء.
 
الثورات ماض يمكن القفز عليه. هذا ما تقوله احتفالات سلطات الحرب بالأعياد الوطنية. وأيضا تكون الأعياد الدينية وأنبياؤها للقوى التي تجيد احتكار الدين وتوظيفه لونياً ووجدانياً وسياسياً. وإذا كان لاحتفالات ثورة 26 سبتمبر زخمها في اليمن، فإنها في صنعاء وفي المناطق الخاضعة للجماعة، ورغم حالات القمع والاعتداء، والتقييد والمطاردة، كانت استفتاءً شعبيا ووجدانيا، بأن الثورات العظمى لا تموت، وبأن صنعاء، لا غيرها، اختبارٌ لحركة التاريخ الصاعد التي لن تقبل في أي حال التصالح مع سلطات الماضي.

*نقلا عن العربي الجديد

التعليقات