تفرض التوترات الإقليمية والدولية الحالية في منطقة البحر الأحمر تأثيراتها على الساحة اليمنية، حيث أدّى تصاعد هجمات جماعة الحوثي، أخيرا، إلى نقل أمن الملاحة في البحر الأحمر إلى مستوى تهديد دولي، بعد تعليق معظم شركات الشحن البحري ملاحتها مؤقتاً، وتغيير خط سيرها إلى منطقة الرجاء الصالح، تبعه إعلان الولايات المتحدة تشكيل تحالف "حارس الازدهار" لتأمين الملاحة في البحر الأحمر. ولأن اليمن، بلد منتزع السيادة وبلا سلطة مركزية تشرف على ممرّاتها ومضائقها، فإن الفاعلين المتعددين يديرون نفوذهم لحماية مصالحهم، فبموازاة القوى الدولية المتنافسة، بتحالفاتها العسكرية التي تنشط في الممرّات المائية اليمنية، يتمركز الفاعلون الإقليميون، حيث أنتجت سنوات الحرب واقعا قسريا، يتمثل بحاكمية القوى المتدخّلة، وتأثيرها على المجال اليمني، وبالطبع، على القرار السياسي، حيث تمثّل السعودية والإمارات طرفا في المعادلة المحلية، بمعزل عن حلفائهما المحليين، مقابل جماعة الحوثي وحليفها الإيراني. وإذا كان تحالف جماعة الحوثي وإيران يتبنّى استراتيجية موحدة في خياراته المحلية، وكذلك الإقليمية، إلى حد كبير، فإن التنافس السعودي - الإماراتي في اليمن، وفي الإقليم، ظلّ يحدّد استراتيجيتهما المتنافرة التي تغذّي الصراع المحلي بين وكلائهما، ومع أن التوترات الحالية في منطقة البحر الأحمر بما في ذلك تشكيل التحالف الذي تتزعمه أميركا، جعل الحليفين يتفقان في تحديد الوجهة، فإن مقاربتهما تعكس أولوياتهما، لا أولويات وكلائهما.
تحضر المقاربة الأمنية في الاستراتيجية السعودية محدّدا لمواقفها السياسية، حيث تشكل الدبلوماسية المتوازنة خيارا أكثر فاعلية لتأمين مجالها القومي وحماية مصالحها الحيوية في المنطقة، مقابل الاتكاء على دبلوماسيةٍ محايدة في الصراعات الإقليمية والدولية في المنطقة، تمكّنها من لعب دور وسيط صاعد، ومن ثم حجز موقعها قوّة سياسية، إلى جانب التفرّغ لتنفيذ رؤيتها الاقتصادية، ومع أن تصاعد التوترات في منطقة الشرق الأوسط مع اندلاع حرب غزّة فرض على السعودية عبئا سياسياً، كونها دولة عربية وإسلامية، ويفترض بديهياً أن تتبنّى موقفا داعماً للفلسطينيين، على الأقل تخفيض إنتاج النفط للضغط على أميركا ومن ثم على إسرائيل، فإن الحسابات الاقتصادية، وتأمين علاقتها بحلفائها في المنطقة، إلى جانب الأولويات الأمنية لتجنب تداعيات حرب غزّة إقليميا ودولياً التي قد تضر بمصالحها، خصوصا في ظل تنامي نشاط إيران، وتبنّيها دعم القضية الفلسطينية وخيارات حركة حماس ضد إسرائيل، يضاف إلى ذلك مخاوفها من هجمات جماعة الحوثي في البحر الأحمر، أي على حدودها البحرية، ومن ثم راهنت السعودية على تجنّب مواجهة إيران ووكلائها في المنطقة. وفي مقابل الدبلوماسية الحذرة التي تتبنّاها في حرب غزّة، فإن التسريع بإنهاء حربها في اليمن ظل وما زال أولوية ملحة بالنسبة لها، خصوصا مع انتقال الصراع إلى منطقة البحر الأحمر، إذ إن إعادة إقحامها في المستنقع اليمني بشكل أو بآخر لا يصبّ في صالحها.
أفضى تصاعد هجمات جماعة الحوثي في البحر الأحمر إلى فرض واقع جديد بالنسبة للسعودية، كدولة متدخّلة في اليمن، وتشرف على البحر الأحمر، وهو الموازنة بين الحفاظ على أمنها وتخفيف تبعات الأضرار الاقتصادية جرّاء تعطيل حركة الملاحة، إلى جانب تجاوز تبعات مسؤوليتها السيادية كدولة تُشرف على البحر الأحمر في تأمين الملاحة، حيث تبنّت استراتيجية تطويق الأضرار، وذلك بإدانة هجمات جماعة الحوثي، مقابل نقل مسؤولية تأمين الملاحة إلى القوى الدولية لإعفاء نفسها من أي التزاماتٍ أو مواجهة مع الجماعة. ومن جهة أخرى، التعويل على الدبلوماسية العُمانية لدفع جماعة الحوثي إلى قبول استئناف العملية السياسية لإنهاء الحرب في اليمن، مقابل تعهّداتها لحلحلة الملف الاقتصادي، إلى جانب دفع القوى الموالية لها في سلطة المجلس الرئاسي إلى تبنّي موقفها من دفع المسار السياسي في اليمن، وكذلك من حرب غزّة، إذ تصعيد جماعة الحوثي في البحر الأحمر مع استمرار تجميد الحل السياسي، وعدم إنهاء حربها في اليمن، يجعل السعودية طرفا أضعف في مواجهة تهديدات أمنية وعسكرية من الجماعة. ومع أن السعودية كانت تراهن أن تفضي الإدانات الدولية جرّاء هجمات الحوثي على الملاحة، إلى توجيه ضربة عسكرية للجماعة تحسّن شروط السعودية في التفاوض، وأيضا تحدّ من خطرها، فإن اكتفاء حليفها الأميركي بتشكيل قوة دولية متعدّدة الجنسيات لحماية الملاحة في البحر الأحمر لا يحقّق أهدافها، ناهيك عن حمايتها من استهداف الجماعة، خصوصا مع تجربتها في سنوات الحرب السابقة بتخلّي حليفها عن حمايتها، إلى جانب أن انخراطها مباشرة في التحالف الذي تتزّعمه أميركا سيؤدّي إلى استفزاز إيران، ومن ثم دفع جماعة الحوثي إلى تهديد مصالحها، خصوصا مع توجيه إيران رسالة تحذير إلى الدول التي ستنخرط في التحالف، ومن ثم فإن انضواءها في التحالف، من دون تأمين نفسها، يفرض على السعودية عبئا أكبر، إذ يجعلها طرفا إقليميا يواجه الجماعة التي تتشارك معها في الحدود اليمنية البرّية وأيضا في البحر الأحمر، إلى جانب، وهذا الأهم، كونها طرفا في حرب اليمن، ما يعني أن انخراطها في التحالف الدولي سوف يؤدي إلى عرقلة أي مسار تفاوضي مقبل مع الجماعة ينهي تدخّلها في اليمن، إضافة الى العبء السياسي الذي يجعل انضواءها رسميا في التحالف الذي تقوده أميركا في معسكر يدعم إسرائيل، ويحمي مصالحها، وإن لم تطبّع معها رسمياً، وفي ظل استمرار حرب غزّة، والدعم الإيراني، وإن بشكل غير مباشر، لعمليات وكيلها في اليمن، فإن تبنّي السعودية المقاربة الأميركية، بدون ضمانات حقيقية يجعلها عرضة للتهديد. ولذلك هي، كدولة تطلّ على البحر الأحمر ودولة متدخّلة في اليمن، تعوّل على حماية مصالحها من أي تهديدات، إلى جانب دعم التحالف الذي تقوده أميركا وإنْ بشكلٍ غير معلن، مقابل التسريع في إنهاء تفاوضها مع الجماعة.
خلافاً للسعودية، تبدو خيارات الإمارات أفضل من حيث تنوعها، وكونها لا تضر بمواقفها الإقليمية والدولية، فضلا عن نتائجها، ناهيك عن عزلها تأثيرات الملف اليمني على مصالحها الحيوية في المنطقة، مع حماية نفوذها في اليمن، إذ إن تبنّيها استراتيجية العمل بوصفها قوة ظل للقوى الكبرى في المنطقة، إلى جانب تطبيعها مع إسرائيل، بما في ذلك تقديم نفسها رافعة لمكافحة الإرهاب، جعلها تراكم رصيدا عند حلفائها، فضلا عن صورتها حليفا عربيا فاعلا في معسكر حلفاء إسرائيل في المنطقة، وما يعنيه ذلك من مكاسب اقتصادية وسياسية بالنسبة لها، والأهم تحقيق تقارب أكبر مع الأولويات الأميركية ومن ثم الإسرائيلية.
ومن ناحية ثانية، استطاعت الإمارات بناء استراتيجية آمنة مع إيران، تطبيع علاقات بينية، وتخفيض التوترات التي تضرّ بمصالحها في المنطقة، وتجنب أي اشتباكٍ مع جماعة الحوثي في اليمن، من خلال توجيه وكلائها المحليين، ومن ثم فإن تصعيد الجماعة هجماتها في البحر الأحمر لا يفرض على الإمارات تبعات إلزامية المواجهة، كونها دولة لا تطلّ على البحر الأحمر، وهذا يعفيها من تبعات اتخاذ موقف سيادي بشكل مباشر، إضافة، وهو الأهم، أن نفوذها في اليمن، وإن لم تنخرط في التحالف الذي تقوده أميركا، يمكّنها من لعب دور إسناد ودعم للتحالف، إذ إن تدخّلها العسكري مكّنها من استثمار وكلاء محليين متعدّدين، حقّقوا لها مركز نفوذ متعاظم وحيوي أيضا، بحيث تتكئ على تحالفاتٍ محليةٍ تحمي نفوذها في المناطق الجنوبية، وتكرّس حضورها في الموانئ اليمنية، إذ أصبح وجودها محميا بشرعية حلفائها، وأيضا الشرعية الدولية، فإلى جانب نشاطها في الموانئ الجنوبية والشرقية، بما في ذلك جزيرة سقطرى، فإنها استطاعت فرض وضع خاص في الساحل الغربي اليمني من الخوخة إلى باب المندب، من خلال تمكين وكيلها، العميد طارق علي عبدالله صالح، بوصفه قوة عسكرية فاعلة، ومن ثم تأهيله طرفا محليا بالتمركز في منطقة باب المندب، مقابل إبقاء القيادة لها، ومن ثمّ فإن سلطة وكيلها، وعلاقتها القوية مع إسرائيل، ومن ثم دعمها أميركا، يمكّنها من أن تكون طرفا في معادلة حماية البحر الأحمر وتأمينه، ومضاعفة نفوذها العسكري في باب المندب، وإنْ لم تنضم مباشرة للتحالف الذي تتزعمه أميركا.
في معادلة أمن البحر الأحمر وتأمينه، تكمن المفارقة المحزنة في تعطيل اليمن، دولة ذات سيادة، من الحماية والإشراف على مجالها البحري، وعلى أمنها، وفرض خيارات لصالح المتغلبين، وبما يضرّ، إلى أمد بعيد، بمصالح اليمنيين، فإذ كانت جماعة الحوثي قد صادرت المجال البحري اليمني الذي يخضع لسلطتها ووظّفته لصالح أجنداتها، وإن أتى تحت غطاء محاربة إسرائيل ودعم فلسطين، مع أن جميع اليمنيين مع فلسطين والقضية الفلسطينية، فإن سلطة المجلس الرئاسي تتموضع كسلطة وكلاء، حتى على الضدّ من مصالحها، بحيث تعكس سياسات حلفائها الإقليميين وخياراتهم، ففي مقابل صمت القوى الموالية للسعودية على التحرّكات الدولية في البحر الأحمر، فإن القوى الموالية للإمارات تبني خيارات حليفها، من تأكيد حضورها العسكري في باب المندب، إلى إرسال رسائل سياسية، باجتزاء معادلة الشواطئ اليمنية، ووحدتها مقابل تشطيرها، وبالتالي، تكون اليمن عمليا، دولةً وشعبا أيضا، خارج أي معطى سيادي يقرّر مصير ممرّاته المائية.
*نقلا عن العربي الجديد