يحفل التاريخ الحديث والمعاصر بشواهد عديدة على انتهاك الدول المهيمنة القانون الدولي وتوظيفه لفرض استراتيجية الردع، وعقيدة الصدمة والترويع، بدءاً باحتكارها حق الدفاع عن النفس، إلى مزاعم حماية أمنها القومي ومجالها الحيوي، إلى سرديات استعمارها شعوب العالم الثالث، وإجازة تدمير الدول ذات السيادة تحت ذرائع مختلفة، إلا أن الأزمات الحالية في منطقة الشرق الأوسط تشكّل حالات غير مسبوقة في انتهاك الدول المهيمنة القانون الدولي واستثماره لأغراضٍ أخرى، من حرب الكيان الإسرائيلي على قطاع غزّة، ومنحه الحقّ في الدفاع عن النفس والتبرير لقتل الفلسطينيين، إلى إجازة استهداف اليمن عسكرياً بدعوى حماية حرّية الملاحة في البحر الأحمر وتأمينها.
بموجب الحقّ السيادي الحصري واستخداماته خارج حدودها، اتخذ الرئيس الأميركي، جو بايدن، قرار شن العمليات العسكرية على اليمن من منطلق أن تهديد الملاحة في البحر الأحمر يدخل ضمن حالة الطوارئ العليا التي تمسّ المصالح الأميركية، والتي تقتضي تدخله المباشر، وسوغت أميركا، بمعية بريطانيا، عملياتهما العسكرية في اليمن باعتباره دفاعاً مشروعاً عن النفس، وفقاً لقرار مجلس الأمن 2227، إلا أن اللافت هنا ليس في المسوّغات التي تمنحها القوى المهيمنة لنفسها في انتهاك سيادة دولة ما، بل إن استعمالات القوة العسكرية التي ارتأتها لمعالجة التهديدات في البحر الأحمر تُقوّض، في ظلّ استمرار حرب الكيان الإسرائيلي على غزّة، ما تبقّى من التوازنات الإقليمية الهشّة، ومن ثم تدفع المنطقة إلى حالة حرب، إلى جانب أنها، ولفرض معادلة القوة، تطيح بتقاليدها المؤسساتية، سواء بتجاوز الرئيس الأميركي الكونغرس في هجماته على اليمن، أو تجاهل الحكومة البريطانية موافقة البرلمان، فضلاً عن تسويق حروبها وتدخلاتها كالعادة بأنها الضمان الوحيد لتحقيق الاستقرار العالمي، وإن تحوّلت حروبها على مدى العقود الماضية إلى جزء من استراتيجيتها التوسّعية، من مكافحة الإرهاب إلى حماية الممرّات المائية، بيد أن للاعتماد على استراتيجية القوة والردع الأميركي لتأمين الملاحة في البحر الأحمر تبعات عديدة.
ومع أن حرية الملاحة حقٌّ لجميع الدول، يضمنه القانون الدولي، فإن الدول المطلّة على الممرّات المائية هي من تمتلك حقّ إدارته، ومن ثم تأمينه، إلا أن الولايات المتحدة عزلت، من خلال مضيّها في استخدام القوة، خيارات الدول التي تشرف على البحر الأحمر للتعاطي مع أزمة الملاحة، بحيث أصبحت معادلة الحرب واقعاً عليها التكيف مع أبعاده وتبعاته. ومن جهة أخرى، يتأتى ضمان حرّية الملاحة بشكل عام من تثبيت حالة الاستقرار الإقليمي والدولي وتخفيض الصراع، والذي يأتي في مقدّمتها وقف حرب الكيان الإسرائيلي على غزّة، إلا أن الاستراتيجية الأميركية تحوّلت، في الوقت الحالي، إلى جزءٍ من إدارة الصراع وتغذيته، ومن ثم هي أبعد في سياستها عن التهدئة، فمن تعطيلها القانون الدولي الذي يفرض حماية الفلسطينيين في قطاع غزّة، وذلك باعتراضها على وقف إطلاق النار، إلى إسقاط الكونغرس مشروع التحقيق في جرائم الكيان الإسرائيلي في غزّة، ومن ثم لا تتجاهل الإدارة الأميركية أبعاد الصراع الإسرائيلي في تصعيد التوترات فقط، بل تدفعه إلى مستوياتٍ جديدة، إذ إن عملياتها العسكرية في اليمن نقلت الوضع في البحر الأحمر من تهديدٍ أمني إلى مسرح لعمليات حربية مفتوحة، سواء منها أو من جماعة الحوثي، ما يعني الإضرار بحرية الملاحة، إلى جانب أن تمركز قواتها العسكرية في البحر الأحمر حوّله إلى منطقة عسكرية متعدّدة القوى، فضلاً عن تبعات إعادة تصنيفها جماعة الحوثي إرهابية، وتأثيره على الملفّ اليمني، إضافة إلى أن رهن عملياتها العسكرية وتعليقها بالمخاطر التي تراها تنطلق من اليمن، يعني استمرار حالة الحرب، ومن ثم فرض وضع دولي جديد على اليمن.
تزامناً مع عملياتها العسكرية في اليمن، أعادت الإدارة الأميركية تصنيف جماعة الحوثي كياناً إرهابياً دولياً مصنّفاً تصنيفاً خاصّاً، كإجراء عقابي يهدف إلى وقف تهديدات الجماعة على الملاحة في البحر الأحمر. ومع أن الإدارة الأميركية أكدت أنها ستوازن أبعاد تصنيفها الجماعة سياسياً مع وقف هجماتها، إلى جانب عدم تأثيرها على الوضع الإنساني في اليمن، فإن تصنيفها الجماعة منظمّة إرهابية يعزّز من مركزها قوة من قوى الممانعة، ولن يعوق تمويل قوتها العسكرية، بيد أن الإدارة الأميركية فقدت بهذا الإجراء أوراقها السياسية في إدارة الملفّ اليمني، بما في ذلك دفع العملية السياسية وإنهاء الحرب في اليمن، فعلى الرغم من أن الإدارات الأميركية المتعاقبة لم تكن يوماً طرفاً وسيطاً في المسار السياسي، بل قوة داعمة عسكرياً للسعودية، وإن غيّرت مقاربتها في السنوات الأخيرة، فإن تعويل الإدارة الأميركية الحالية على الدبلوماسية الأممية لإنهاء الحرب، يقوّضه تصنيفها الجماعة منظمّة إرهابية، إلى جانب استمرار عملياتها العسكرية ضدها، يعني إرباكها الجهود الدبلوماسية التي تقودها الأمم المتحدة، أو على الأقل تجميدها إلى وقت غير معلوم، ومن ثم فإن بقاء الحالة اليمنية كما هي يعني استمرار الجماعة قوّة حرب داخلياً وأيضاً خارجياً، إلى جانب أن تحوّل أميركا إلى طرف عسكري يشنّ حرباً في اليمن، وإن كانت محدودة وتنحصر، حتى اللحظة، على استهداف مواقع جماعة الحوثي، يعني أنها فقدت القدرة على الضغط على جماعة الحوثي، من خلال القنوات الدبلوماسية غير المباشرة، سواء عن طريق إيران أو الوسيط العُماني، ما يجعل الإدارة الأميركية في مأزق على المدى البعيد، وذلك بالتعويل فقط على الضربات العسكرية لوقف تهديدات الجماعة.
إلى ذلك، تخضع نتائج العمليات العسكرية الأميركية في اليمن حتى اللحظة لمدى قدرتها على تحقيق قدر ما من ردع جماعة الحوثي، وتأثيرها في حركة الملاحة بالبحر الأحمر، ومع أن الإدارة الأميركية حريصة على تحقيق نصر سياسي، حيث أعلنت في اليوم الثاني من عملياتها أن ضرباتها في اليمن أفقدت جماعة الحوثي ثلث قدرتها العسكرية، بيد أن الجماعة استمرّت في هجماتها، حيث نفّذت أكثر من ثماني عمليات ضد السفن، امتدّت من البحر الأحمر إلى خليج عدن، استهدفت سفناً تجارية، بما في ذلك بارجة أميركية قرب خليج عدن، وسفينتا شحن مملوكة لأميركا، نفذتها بصواريخ كروز وطائرات مسيّرة، انطلقت من مناطق يمنية مختلفة، وهو ما يعني أن الردع العسكري الأميركي لم يحقق غايته في ضرب القدرة العسكرية للجماعة، أو على الأقل تخفيض هجماتها، إذ تعوّل الجماعة، إلى جانب قوتها العسكرية المحدودة، على عامل الزمن، أي بإطالة معركتها ضد أميركا والقوى المتحالفة معها، إضافة إلى تغيير طبيعة أهدافها العسكرية، وفقاً لتحوّلات الصراع، من خلال تركيز هجماتها على أميركا وحلفائها في البحر الأحمر، إذ أعلنت الجماعة أن كل السفن التابعة للدول المشاركة في الهجمات على اليمن تدخل ضمن بنك أهدافها.
ومع أن أميركا واصلت ضرباتها العسكرية على مواقع الجماعة، بما في ذلك ضبط سفينة أسلحة إيرانية متجهة إلى اليمن، فإن استمرار عملياتها ضد الجماعة من دون ضمان تعطيل قدرتها العسكرية في مدى زمني محدّد قد يشكل عامل ضغط على الإدارة الأميركية سياسياً وعسكرياً وانتخابياً أيضاً، بما في ذلك فرض تبعات جديدة عليها، إذ إن استهداف اليمن عسكرياً، وإن جاء تحت غطاء حماية الملاحة في البحر الأحمر من تهديد الجماعة، في ضوْء حالة النقمة الشعبية على دعمها الكيان الإسرائيلي قد تدفع إلى مضاعفة الأعمال العدائية حيالها من استهداف مصالحها في المنطقة، وقواعدها العسكرية إلى استهداف رعاياها، سواء من القوى المتحالفة مع جماعة الحوثي أو من التنظيمات الدينية الجهادية، إلى جانب أن إطالة عملياتها العسكرية في اليمن، من دون تحقيق نتائجها قد تجعلها في وضع مقارب لحربها على الإرهاب في اليمن، أي استهداف جوي لمواقع الجماعة، مقابل تنامي شعبيّتها على الأرض. ومن جهة ثانية، فشلت العمليات العسكرية الأميركية البريطانية في البحر الأحمر، وإن أتت تحت غطاء القانون الدولي، وبأغراض تأمين حرية الملاحة، في تأكيد حقّها السيادي الحصري، إذ أعلن الاتحاد الأوروبي تشكيل قوة حماية عسكرية في البحر الأحمر ستنطلق في الشهر المقبل (فبراير/ شباط)، إلى جانب الوجود العسكري لقوى دولية وغربية، ما سيُنتج وضعاً جديداً للبحر الأحمر، بتحويله إلى منطقة عسكرية تحتشد فيها قوى متعدّدة. في المقابل، أصبح الخيار العسكري لتأمين الملاحة في البحر الأحمر، وإن جاء تحت دافع حماية المصالح الاقتصادية والتجارية، عامل تهديد لها، بما في ذلك الإضرار بالاقتصاد العالمي، إذ أسفرت العمليات العسكرية الأميركية في اليمن، عن مضاعفة مخاطر الملاحة في البحر الأحمر، ورفع مستوى التهديدات جرّاء تعرّض السفن والناقلات لخطر الهجمات، أي بقاؤها في خط النار، إذ تجنّبت منذ بدء العمليات الأميركية أكثر من 14 شركة ملاحية المرور عبر البحر الأحمر، بما في ذلك ناقلات نفط، وغاز مسال، وسلاسل توريد الأغذية، ومن ثم قد تعطل، العمليات الحربية مع طول أمدها، حركة الملاحة وتشلها تماماً، ما يعني أن أميركا، أصبحت قوّة مهدّدة للملاحة، إضافة إلى أن حالة الحرب في البحر الأحمر قد تجرّ قوى دولية ومحلية لتنفيذ هجماتٍ ضد السفن، ومن ثم رفع مستوى المخاطر التي تواجهها السفن من هجمات الجماعة إلى نيرانٍ صديقة وقوى منافسة، ما يجعل البحر الأحمر منطقة غير آمنة.
ما بين الحق السيادي المسنود بالقوة للحفاظ على مصالحها، ونتائج هذا الخيار، لا تكمن المفارقة في قدرة الدول المهيمنة على اجتزاء المعادلة الإنسانية وتضحيتها بقيم العدالة والحق الإنساني في الحياة والكرامة، بل أن يتحوّل القانون الدولي إلى قوّة إسناد لتثبيت وضعٍ لا إنساني على الشعوب وعلى الدول، إذ إن سردية قتل الفلسطينيين في قطاع غزّة المستمرّة، وتحويلهم إلى كوبونات بشرية تواجه القتل والإبادة لم تحرّك ضمير العالم لوقف هذه المذابح، وفي منطق القوة والإلغاء نفسه، تصبح الدول الضعيفة كاليمن الطرف الأضعف، إذ لا يقتضي انتهاك سيادتها وتدمير أرضها واستهدافها عسكرياً سوى غطاء دولي أو إقليمي وذريعة، سواء تهديد حرية الملاحة في البحر الأحمر كما يحدث حالياً، أو شنّ حربٍ عسكرية ما زال اليمن يعيش مأساتها وكلفتها لحماية المجال الحيوي للسعودية، وإعادة حلفائها إلى السلطة. وبعيداً عن الحلفاء والوكلاء، فإن الاستباحة نفسها، وإن اختلفت مسبّباتها وظروفها.
*نقلا عن العربي الجديد